العدد 58 - أردني
 

سعد حتّر

الأردن «غاضب»، بحسب توصيف رأس الدولة، الذي يتحرّك «لإجبار» إسرائيل على وقف عدوانها على قطاع غزّة. رئيس الوزراء نادر الذهبي يلوّح في خطاب «معلن» غير معهود بمراجعة معاهدة السلام واتخاذ ما يراه مناسبا لحماية «مصالح الدولة العليا».

فهل أضحت المعاهدة عبئا على الدولة الأردنية بعد أن وصفت بأنها طوق نجاة لإخراجه من عزلته عقب حرب الخليج الثانية (1990 - 1991)؟

الملك عبدالله الثاني اختار لجنة علماء المسلمين برئاسة يوسف القرضاوي ليدق عبرها ناقوس الخطر من وجود «مؤامرة» إسرائيلية «تستهدف الشعب الفلسطيني ومستقبله وحقه في إقامة الدولة المستقلة»، وهي خط دفاع متقدم عن هوية الدولة الأردنية.

ففي تصريحات أوردتها قناة الجزيرة الفضائية، أعرب الملك «عن خشيته مما سيحدث بعد غزّة». وقال: «يجب أن ننتبه للمؤامرة وإن شاء الله بروح الفريق الواحد كدول عربية نوقف الأجندة الإسرائيلية بأقصى سرعة»، لافتا إلى أنه ينسق مع دول عربية وغربية لوقف العدوان على غزة بشكل فوري».

ترى الاوساط السياسية في تصريح الملك تشكيكاً معلناً في نية إسرائيل بتحقيق السلام. وحين ينبه الى المرحلة التي ستعقب اجتياح غزة، فإن عبد الله الثاني يتنبأ بمحاولات جر بلاده للعب دور في الضفة الغربية بعد تشتيت الصف الفلسطيني.

قراءة في الخطاب الرسمي الأردني تشي بخيبة أمل متصاعدة حيال تصرفات إسرائيل منذ مطلع القرن، إذ باتت المملكة تدرك أن إسرائيل لا تريد السلام بل تسعى للمماطلة، لحين استكمال تغيير الأمر الواقع على الأرض، حسبما يرى مسؤول رفيع. في الأثناء تواصل قتل فرص إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزّة وتدمير أساسات المفاوض الفلسطيني، بدءاً من السلطة الفلسطينية بزعامة فتح وانتهاء بحماس الإسلامية.

اذن، هل يذهب الأردن إلى حدود طرد السفير الإسرائيلي يعقوب روزين، كما فعلت فنزويلا خلف الأطلسي، أو إبقاء سفيره لدى إسرائيل علي العايد في عمان؟ أم يتعدى ذلك إلى تجميد معاهدة السلام التي كان يفترض أن تدفن خيار الوطن البديل؟، طبقاً لتصريحات رئيس الوزراء السابق عبد السلام المجالي، الذي وقعّها العام 1994.

العايد لم يعد إلى مقر السفارة في تل أبيب مذ عاد إلى الوطن قبل عشرة أيام لتمضية إجازته، وحضور اجتماع رؤساء البعثات الدبلوماسية في الخارج؟ أما روزين، الذي تنتهي فترة انتدابه صيف العام الجاري، فهو في تل أبيب منذ أسابيع.

يتوقع سياسيون أن يترجم «الغضب» الأردني إلى إبقاء العايد في عمّان، لكن دون أن يصل الأمر إلى سقف تجميد المعاهدة.

ويبدو أن السفير تلقى تعليمات بالبقاء هنا في إجازة مفتوحة، في سياق تسجيل موقف رسمي.

رئيس الوزراء الأسبق فايز الطراونة يقرأ في كلام الذهبي «طرحاً سياسياً - دبلوماسياً يبقي الخيار مفتوحا دون تقييد بدءا من استدعاء السفير إلى قطع العلاقات». فـ«لا شيء مستحيل ويعتمد التوجه على مآل المعركة، وفيما إذا سيقرر مجلس الأمن قراراً بوقف إطلاق»، بحسب الطراونة الذي نبّه مع ذلك إلى أن مثل هذا القرار يخضع لحزمة «حسابات إقليمية ودولية بما في ذلك موقف مصر، المماثلة لوضع الأردن».

مسؤول في الديوان الملكي، يؤكد أهمية إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة لإيصال المساعدات الطارئة إلى القطاع ونقل الجرحى إلى مستشفيات عمّان. لكن هذه الاتصالات باتت شبه معدومة عبر القنوات السياسية، بحسب مصادر حكومية.

العلاقة مع إسرائيل دخلت سابقا في مآزق أكثر عمقا وصلت إلى مرحلة التهديد بإغلاق السفارة وإلغاء المعاهدة، لكنها لم تظهر للعلن في ذلك الوقت، بل تسربّت لاحقا.

فقبل أن ينقذ الراحل الحسين بن طلال حياة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في أيلول/سبتمبر 1997، وصلّت تهديداته إلى حد التلويح بإرسال وحدة من العمليات الخاصة بقيادة نجله الأمير عبدالله (الذي اعتلى العرش العام 1999) لاقتحام السفارة الإسرائيلية. مسؤول سابق في الديوان الملكي يستذكر قرار الحسين حين خاطب الحكومة الإسرائيلية: «بدكوا تكشفوا لنا عن الدوا المضاد وإلا بدكوا نتعامل معكوا كشلّة إرهابيين، ونبعث العمليات الخاصة على السفارة»؟ يقول المسؤول «بالفعل صدر قرار وتوجهت وحدة نخبوية إلى محيط السفارة وزنّرتها» حتى أرسلت الحكومة الإسرائيلية الترياق الذي عكس مفعول مادة سامّة رشّها على مشعل عميلان للموساد الإسرائيلي.

وقال الحسين للرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون إن «معاهدة السلام في كف وحياة مشعل في كف».

في كتابها «الحسين: أباً وابناً»، تورد الصحفية المخضرمة رندا حبيب (منذ 1980) تصريحات الحسين ومواقفه الغاضبة كلما استهدفت حكومات إسرائيل مواقع دينية أو مسؤولين فلسطينيين. وتخصص حبيب محطتين في فصل عن رئيس الحكومة الأسبق اليميني بنيامين نتانياهو؛ الأولى محاولة اغتيال مشعل الفاشلة، والثانية بناء مستوطنة على جبل أبو غنيم في القدس الشرقية.

أكثر من مرةّ وبّخ الملك الراحل نتانياهو خلال اجتماعات موسعة في الولايات المتحدة وفي رسالة حادّة وجهّها إليه في آذار/مارس 1997.

حين اندلعت الانتفاضة الثانية في 28 أيلول/سبتمبر 2000، أحجم الأردن عن إرسال سفيره المعين حديثاً في تل أبيب عبد الإله الكردي. وظل ذلك المنصب شاغراً في غمرة الانتفاضة وما أعقبها من اجتياح إسرائيلي لجنين العام 2002.

بين العامين 2000 و2003 نظّمت أكثر من 1200 مسيرة ومهرجان خطابي، وسط انهيارات في الإقليم بدءاً بالانتفاضة الثانية، مرورا باجتياح جنين، وانتهاء بالغزو الأميركي على العراق.

في ذلك الوقت، يستذكر مسؤول سابق، «لم يكن الموقف الرسمي بهذا الغضب. لكنه كان قريباً من نبض الشارع كما اليوم ولم تحاول الأجهزة الأمنية وقف الحراك الشعبي». اليوم، يضيف المسؤول ذاته، «هناك اجتياح، إهانه يومية للعرب، قهر، ظلم وقتل أطفال؛ وبالتالي لا بد وأن يعتمل الغضب رسمياً وشعبياً إلى هذه الدرجة». بعد كل هذه التداعيات، لم يعد صانع القرار هنا «قانعاً بحجج إسرائيل حول رغبتها بالسلام، فيما يدير مجلس الأمن ظهره لمجازر الأطفال والنساء ويتحرك الأوروبيون على استحياء».

يتوقع هذا المسؤول أن يكون أحد ضحايا اجتياح غزّة تجميد المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، دفن المبادرة العربية وضرب محاولات التوصل إلى إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، ما يعني نسف جهود الملك المتواصلة في هذا الاتجاه.

صانع القرار يخشى أن تندرج التصفيات والتدمير المنهجي في الضفة والقطاع، ضمن محاولات لدفع الأردن صوب لعب دور أمني وسياسي في الضفة، على قاعدة «عدم وجود مفاوض فلسطيني». هذا ما يروج له اليمين الإسرائيلي المتطرف، ومراكز أبحاث أميركية قريبة من المحافظين الجدد.

وهناك مخاوف من الدفع باتجاه تسوية «منقوصة» يقام من خلالها كيانان هشّان في القطاع والضفة، تلحق بالأخير مناطق مجاورة ذات كثافة سكانية عربية داخل الخط الأخضر، ضمن مقايضة أراضي في القدس الشرقية وجوارها. في المحصلة تسعى إسرائيل، بحسب مسؤول أردني رفيع خدم في بدايات عهد الملك عبد الله الثاني، إلى فصل «الضفة عن القطاع كليا وخلق أمر واقع جديد، سياسيا واجتماعيا».

ويرى المسؤول السابق أن «الغضب الرسمي» والقهر الشعبي منصبان على «الخسائر البشرية الفادحة نتيجة العدوان الإرهابي النازي، الإخلال بمعاهدة السلام والمهانة اليومية التي تعيشها الأمّة العربية من تمزق ووهن».

مصر، أول دولة عربية تبرم معاهدة سلام مع إسرائيل العام 1979، تستشعر خطرا مماثلا يتصل بمحاولة جرّها للعب دور في غزّة، خاصرتها الشمالية- التي كانت تحت إدارتها قبل أن يقع تحت الاحتلال العام 1967.

في الأزمات السابقة، ظهر التنسيق جليا بين عمان والقاهرة. أما اليوم فلا يعلن عن تنسيق شبه يومي مع مصر، إحدى أضلع ما كان يعرف برباعية الاعتدال العربي إلى جانب الأردن، السعودية والإمارات العربية. ويستشف من التصريحات الرسمية أن الملك أجرى اتصالات طوارئ مع عدة زعماء عرب وأجانب باستثناء القيادة المصرية، التي تتعرض لهجمة على مستوى القاعدة والقمّة في عدّة دول عربية، تتهمها بسوء إدارة أزمة غزّة.

يشبّه سياسيون ما يموج به الشارع الآن بالمسيرات الحاشدة التي غصّت بها مدن وقرى الأردن في عدّة مفاصل؛ عشيّة وخلال حرب شنّتها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة على العراق 1991 و2003، الانتفاضة الفلسطينية ومحاولة اجتياح جنوب لبنان صيف 2006.

خلال تلك الهبّات تحرك القصر لضبط إيقاع الشارع وطرح مبادرات صنعت تناغما بين القمة والقاعدة. ويستذكر مسؤول من تلك الحقبة كيف «انتفض» الراحل الحسين بن طلال ضد تدويل الأزمة وضرب العراق، رغم أنه لم يؤيد قط دخول هذا البلد المجاور إلى الكويت.

الحراك الملكي انعكس مسيرات ومهرجانات خطابية على نسق واحد في ذلك الوقت. في العام 2003، كانت حركة الشارع محدودة ولم يقع صدام بين التوجهات الرسمية ورغبة الجماهير الرافضة للغزو الأميركي، رغم العلاقة الاستراتيجية القائمة بين واشنطن وعمان، والتي فرضت على الأخيرة تقديم تسهيلات لوجستية للجيش الأميركي. قبل أشهر من الحرب، ضربت الأجهزة الأمنية من وصفوا بعناصر إرهابية وخارجة عن القانون في مدينة معان، التي شهدت قبل ذلك مواجهات دامية عامي 1989 و1996.

حين قصفت إسرائيل جنوب لبنان، سارع الملك عبدالله الثاني لكسر الحصار الجوي، فأرسل ثلاث طائرات عسكرية وأزالت فرق أردنية القنابل والألغام من محيط مطار «رفيق الحريري» كما أرسل مستشفى ميدانياً إلى هناك. الغضبة الشعبية آنذاك لم تكن بهذا الزخم، فيما طالت الأردن الرسمي، وحليفتيه السعودية ومصر، سهام النقد والتجريح من دول وتنظيمات لا سيما من حزب الله اللبناني.

اليوم، بخلاف الرئيس المصري حسنى مبارك، الذي يتعرض لشتم وإهانات في شوارع في بلاده لم يوجه إلى القيادة الأردنية أي انتقاد خلال مئات المسيرات التي طافت المملكة منذ بدء العدوان الإسرائيلي.

ويرى مسؤولون أن القصر «تكتك» إدارة الأزمة على غرار المحطات الساخنة السابقة، ما ساهم في إحداث تناغم إيجابي أبعد الأردن عن الهزات الارتدادية التي تجتاح المنطقة، كلما حشدت إسرائيل قواتها ضد فلسطين أو لبنان أو امتطت أميركا البحر لضرب العراق.

يراهن الأردن الرسمي على سلسلة اتصالات مكثفة يقودها الملك مع الرئيس الأميركي جورج بوش والفلسطيني محمود عباس، وزعماء عرب وغربيين. كما تراهن عمان على جهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي يحمل مسودة تفاهم لرصف الأرضية صوب «اتفاق» يتبعه قرار لمجلس الأمن حول غزة. لكن لا يبدو ان هناك مخرجاً في الأفق قبل دخول باراك اوباما المكتب البيضاوي في 20 كانون الثاني/يناير الجاري.

ما هي خيارات الأردن “الغاضب” رداً على غزوة غزة؟ : خطاب رسمي حازم لإجهاض مؤامرة إسرائيلية
 
08-Jan-2009
 
العدد 58