العدد 58 - أردني
 

محمود الريماوي

منذ ثلاثة عشر يوماً تتوالى محنة غزة أهلها ومقاوموها، ويجري بث فصولها على الهواء مباشرة بالصوت والصورة، ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة. يتم تطبيع المشاعر والأذهان، مع وقائع مريعة، فإذا ما تم نقل مشاهد أقل ترويعاً، بدت محتملة وربما «مقبولة» قياساً بغيرها.

في محطات تلفزيونية غربية يجري بث برامج تسمى "تلفزيون الواقع"، حيث يتم رصد حياة مجموعات بشرية، دون تدخلات من المخرج ودون اضطرار أفراد هذه المجموعات لـ"التمثيل"، وأحياناً دون علم بعض هؤلاء أن تصويراً يتم. محطات عربية نقلت هذه الفكرة.

البث المفتوح لفصول محنة غزة يتمرأى ويتجلى كشكل آخر من تلفزيون الواقع. فيجري نقل تفاصيل الجرائم أولاً بأول، بأكبر قدر من الإثارة. فيخال المشاهد أنه حاضر في غزة، وحتى أكثر من أبنائها المحشورين في زاوية ما، بانتظار قدرهم، بينما تطوف الكاميرات بالمشاهد عن بعد بين بيت لاهيا، وبيت حانون، بين رفح وخانيونس، بين البحر والبر.

حصيلة ذلك آلاف القتلى والجرحى والمشوهين والأيتام والثكالى، والبيوت المهدمة على رؤوس أصحابها، وفي بورصة ترتفع باستمرار، خلافاً للبورصات المالية التي تنخفض وترتفع.

المحنة المروعة لا تستوقف الكثيرين، لاستجلاء معانيها وقراءة مقدماتها واستخلاص دروسها، فقد أصبح الرفع المسبق لسقف التوقعات تقليداً عربياً، لا يلبث أن يؤدي ليس فقط إلى حالة إحباط، بل قبل ذلك إلى خسائر بشرية حيث يتحول البشر إلى إرقام، وفي أحسن الأحوال إلى ملصقات (بوسترات). التقييم الواقعي الموضوعي للأمور يصبح سبة ونقيصة، يحسن تفاديها. التجييش العاطفي، والاحتكام إلى الإنشاء يجذب الكثيرين من عقلاء وغيرهم. وهو ما يفسر أنه في الأزمات الكبيرة والتحديات الجسيمة، فإن الخبراء يتراجعون وتخفت أصواتهم، ويستأثر بالفضاء الخطباء الذين يهتبلون المناسبة لاستعراض مواهبهم واقتناص الإعجاب.

في هذه الغضون، فإن حرمة الحياة البشرية، الحق في الحياة وفي الحماية تغيب عن التداول. يلام ويدان، بطبيعة الحال، البرابرة الإسرائيليون أولاً وثانياً وثالثاً الذين ينزلقون إلى استعراضات القتل بعد أن أدمنوا على الجريمة المنظمة، غير أن الطرف المعني يلام أيضاً من زاوية العجز عن التوقع، والاستنكاف عن الاجتهاد بتوفير كل سبل الحماية، وتثبيت مبدأ أن حياة البشر فوق كل مساومة.

أليس من دواعي الاستهجان، أن القيادات الفلسطينية لم تضع على جدول أعمالها هذا الهدف رغم إدراكها أن الوحشية الإسرائيلية بلا حدود؟.

في أيام الحرب ارتفعت أصوات قادة ميامين يرفضون مبدأ الحماية الدولية لشعبهم المستباح، وسرعان ما تحقق أول التقاء مع الدولة العبرية التي التقت مع هؤلاء في رفض مبدأ الحماية.. تل أبيب تنشد دوام الاستفراد بالشعب الأعزل، وقيادات لا تضع نصب أعينها سوى الانفراد في الحكم والسيطرة، فلا تزاحمها قوة غريبة حتى لو كان الهدف حماية العائلات من الإبادة واستدراج المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته، في صون حق البشر في الحياة الحرة على أرضهم أسوة ببقية شعوب المعمورة. وبينما يشن جيش الاحتلال حرباً شرسة وقذرة لحماية بضعة مستوطنات كما ما فتىء يعلن،فإننا من جانبنا نهتف لـ «شلال الدم».

يلاحظ أكاديمي أردني أن فضيلة النقد الذاتي غابت عن الحياة الفكرية والسياسية العربية منذ العام 1990 على الأقل تاريخ غزو النظام العراقي السابق لبلد عربي «صغير» مجاور هو الكويت. وحل الاحتكام إلى الغرائز وتحقيق الطموحات بضرية سحرية وأياً كانت مشروعية الوسائل محل النقد والنقد الذاتي. يستذكر الأكاديمي أن مفكراً عربياً يدعى صادق جلال العظم انبرى لنقد هزيمة العام 1967 وكان دون الثلاثين من عمره، في كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، مما كان له أثره في إغناء الحياة السياسية والفكرية.

فيما شهدت حقبة العقدين الماضيين تراجعاً حاداً في هذا المضمار، ما أدى إلى استقالة العقل وأحكامه.. علماً بأن ثمرات العقل تتضارب وتتباين، غير أن انحسار مناخ الحريات، بفعل توزيع الأدوار في الكبح والمصادرة بين أنظمة سياسية وبين قوى نكوصية بعضها يدعي العلمانية في المجتمعات، حال دون التفاعل الخلاق والحر بين الأفكار، ودون الإسهام تالياً في نهوض حقيقي يحرر ويستثمر طاقات المجتمع.

الذهول الذي يصيب الناس أمام الأحداث المروعة، لا يعود فقط إلى الصدمة الشديدة من جرأة الإسرائيليين على ارتكاب الفظائع بدم بارد، بل يرجع كذلك إلى ما يبدو من انسداد الأفق السياسي، واختلاط الرؤية وفقدان أية بوصلة هادية، للتقليل على الأقل من الخسائر ووقف النزيف الدائم للأرواح والمقدرات.

يضاعف من ذلك إدراك المواطن العربي البسيط أن أمته بكياناتها ومجتمعاتها قد أخفقت إخفاقاً مروعاً بأن تتحول إلى كتلة إقليمية قومية ذات شأن، ووزن رغم الثروات الأسطورية التي توافرت لها، والتي لا سابق لها في التاريخ البشري، ورغم التوسع في التعليم وانتشار وسائل الاتصال والإعلام، تشير تقديرات متعددة إلى أن عدد حملة شهادات الدكتوراه من العرب، يفوق عدد الإسرائيليين مجتمعين، والعلّة واضحة فنيل الشهادات متاح لكن البحث العلمي مذموم، وتتشارك السلطات مع المجتمعات في وضع قيود على البحث، وهو سر تقدم البلدان من اليابان إلى الولايات المتحدة إلى دولة عدونا القومي، كما يتم تحويل الخبراء في سائر الميادين إلى مستشارين من ذوي البطالة المقنعة أو إلى بطانة سياسية تمتهن تزيين الأمور، بدلاً من نقد أوجه القصور والعطب ورسم استراتيجيات للمستقبل والأخذ بها.

لأسباب كهذه تبدو محنة غزة تحدياً لا جواب عنه، تستنهض المشاعر وتثير الانفعالات، دون أن تستنفر العقول باتجاه اجتراح حلول إبداعية تضمن الحماية للبشر وتضع القتلة بين أيدي العدالة. وبالوسع الاستذكار هنا أن مؤتمراً طارئاً للقمة العربية عقد في القاهرة غداة الانتفاضة الأولى، ودعا لمطاردة ومحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، لكن خطة لم يتم وضعها ومتابعتها لتنفيذ هذه التوصية.. علماً أن عواصم غربية لا عربية، وضعت بعض هؤلاء المجرمين بالفعل على قوائم المطلوبين لديها، مما يغني عن كل تعليق.

إن تتالي هذه المحنة ينادي العقول والضمائر العربية للتحرك لوقفها، بدل التغني بصمود الضحايا. فصمود هؤلاء على أرضهم لا يحتاج للإشادة والثناء من أحد، بل يتطلب اتخاذ مواقف شجاعة لشل آلة الحرب المجنونة، وإنقاذ البشر، ومنع تفريغ القضية الفلسطينية من بعدها التحرري والإنساني، وتحويلها إلى مادة للصراع والتنافس، بين مشاريع إقليمية في مقدمها بالطبع المشروع التوسعي الصهيوني المدعوم أميركياً.

مأساة مروعة على الهواء مباشرة لمن يرغب في المشاهدة: محنة غزة تنادي عقول العرب وضمائرهم
 
08-Jan-2009
 
العدد 58