العدد 57 - اقليمي | ||||||||||||||
معن البياري يستهلّ العام الجديد 2009 بما يتصل بالسودان، أيامه الأولى، باجتماع ينعقد في الدوحة الأحد المقبل لإنجاح «المبادرة العربية الإفريقية بشأن دارفور»، التي ترعاها قطر وتضم 13 دولة. الآمال السودانية والعربية، ومن أهل دارفور، كبيرة، بأن تنجح المبادرة في جمع أطراف أزمة الإقليم، الإنسانية والأمنية والسياسية المحتدمة منذ أزيد من خمس سنوات، وأن تصل إلى حل متكامل ينهي النزاع الأهلي المستمر في غرب السودان، الذي تلحّ مصادر غربية على أن ضحاياه 200 ألف قتيل، فضلا عن نحو مليوني ونصف المليون مهجر ونازح، فيما تقدر الخرطوم عدد الضحايا بعشرة آلاف، ولا تزيد مصادر مختصة عدد المشردين عن مليون ونصف المليون. ولأن القضية لم تعد هنا، بل في وجوب إنهاء محنة الاقتتال والاحتراب وتداعياتها الإنسانية، فإن استقبال العام الجديد بآمال نجاح الجهد الجديد، العربي الإفريقي، والقطري أيضا، يعدّ معطى مهماً ويحثّ على إشاعة مقادير من التفاؤل، من دون الإفراط في ذلك، بسبب فشل جهود سابقة غير قليلة، عربية، وسودانية، ومصرية، وليبية، وإقليمية، وكذلك فشل اتفاق أبوجا الموقع في أيار/مايو 2006 في إنهاء محنة أهل دارفور، وتعدادهم يصل إلى نحو ستة ملايين نسمة. يُؤتى على ما سبق، وفي البال أن قوة لحفظ السلام أممية وإفريقية هجين، بدأت الانتشار في دارفور في الشهر الأول من العام المنصرف، وتمّ التعويل على نجاحها في مهمتها، غير أن عدم اكتمال عديدها من العسكريين وعناصر الشرطة المحدّد لها، وهو 26 ألف رجل، ونشر نحو 12 ألفا فقط، أضعف الآمال بأن تساهم هذه القوة فعلياً في تمكين استقرار دائم في الإقليم المنكوب. وهو الاستقرار الذي لم يحقّقه إعلانٌ للرئيس السوداني عمر البشير في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي وقف إطلاق نار غير مشروط، واعتبرته حركات التمرد (الـ26!) مجرد تصريح دعائي، فاستمرت موجات القتل والنهب والغارات والقصف التي يشارك فيها جميع المتورطين في هذه الأعمال العسكرية منذ نشوبها في آذار/مارس 2003، وهم رجال قبائل من أصول عربية، وإفريقية، وحكوميون ومتمردون. وكان حدثاً جوهرياً في آذار/مارس الماضي أن تقريرا للأمم المتحدة بشأن أعمال العنف ضد المدنيين في دارفور خلال هجمات الجيش السوداني منذ بدء 2008 يذكر أن هذه الأعمال تندرج في «استراتيجية عسكرية متعمدة»، وقد حمل الجيش السوداني على التقرير بشدة. وكان تطوراً، في العام المنصرف، بالغ الأهمية في مسار التعقيد لقضية دارفور وتأزماتها المتتالية، طلبُ المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو، من قضاة المحكمة الـ18، إصدار مذكرة باعتقال الرئيس السوداني عمر البشير بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة في دارفور، في بيان وصف الرئيس بأنه «رأس الحربة التي تقترفها قواته في دارفور». ورفضت الخرطوم هذا الإجراء، واعتبرت نفسها غير معنيّة به، وحذّرت من تداعياته، وناصرتها في ذلك الدول العربية وبعض الأجنبية. وفي هذا الأمر الذي يتوافر على مقادير من التحريض السياسي ومن ازدواجية المعايير في التعامل مع الجرائم المرتكبة في دارفور، يُضاف البشير إلى وزير الدولة للشؤون الإنسانية أحمد هارون والقائد الميداني علي محمد عبد الرحمن (كوشيب) اللذين طُلب توقيفهما للمحكمة نفسها في شباط/فبراير العام الماضي. وإذا كان السودانيون من أهل دارفور، وضحايا العنف منهم خصوصا، يبحثون عن العدالة الإنسانية، وعن محاسبة مرتكبي أعمال القتل والتهجير التي تستهدفهم، فإن مسار هذا الأمر على الصعيدين الحقوقي والقانوني، السوداني المحلي والدولي الأممي، يشوبه التشوه والتسييس والارتجال وانعدام الدقة، وغير ذلك مما يضعف فرص تحقق العدالة والإنصاف في الإقليم. وإذا كانت دعاوى التهميش والغبن في تنمية دارفور وولاياته الثلاث، بمساحته التي تماثل مساحة فرنسا، هي التي تذرعت بها حركات التمرد التي تناسلت واختلطت أوراقها وارتباطاتها، فإن العام المنصرف عرف التفاتاً سودانياً وعربياً ودوليا إلى هذا الأمر. وحدث أن استضافت الخرطوم مؤتمراً عربياً للدول العربية والمنظمات الطوعية في تشرين الأول/أكتوبر 2007، انتهى إلى الاتفاق على إنفاق مبالغ تم الإعلان عن التبرع بها في مشاريع تنموية في دارفور. وقبل نحو أسبوعين، وقّع البشير في زيارته الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، عقودا مع شركات صينية لإنشاء طرق معبّدة جديدة في الإقليم، بوصف ذلك «تأكيداً لجديّة الحكومة في تنفيذ مشروعات التنمية وتحقيق الاستقرار والسلم في دارفور، ورداً على الذين يتهمون الحكومة بتهميش أبناء الإقليم» كما صرح الرئيس في حينه. ولمّا كان هذا من الواجبات المؤكدة على السلطات السودانية، باعتبارها صاحبة الولاية على أراضيها، فإن المرء يحدوه تطلعٌ أن يتوازى هذا الجهد في العام المقبل، مع جديّة لازمة في العمل الدؤوب السياسي والميداني، من أجل وقف كل مظاهر القتل في الإقليم الذي بين يدي سكانه 12 مليون بندقية، عدا عن آليات ومعدات عسكرية أخرى، وكان مدهشا أن مئات من المتمردين المسلحين في «حركة العدل والمساواة»، التي تعد أكبر حركات التمرد، تمكنوا باستخدام بعضها في 11 أيار/مايو الماضي من الوصول إلى مشارف العاصمة الخرطوم، ونفذوا هجوما مفاجئاً وخطيراً على مدينة أم درمان المجاورة للعاصمة، صدّته القوات النظامية، وأسفر عن سقوط نحو 220 قتيلا وإصابة وأسر المئات. وسارعت الحكومة السودانية إلى اتهام تشاد بدعم هذا الهجوم والتورط فيه. وصرح زعيم الحركة المذكورة خليل إبراهيم، في مقابلة صحفية معه نشرت قبل أسبوعين أن هذه الضربة كانت ردّاً على عنف السلطة التي قتلت وشردت وحرقت قرى آمنة في دارفور، بحسب تعبيره، حيث تجري في الإقليم «أسوأ مأساة في العالم». هي آمال ورهانات بنجاح جهد عربي وإقليمي جيد، من المرتقب أن ينشط مع بداية العام الجديد، من أجل طي هذه المأساة الإنسانية، التي تعد القضية الأشد إلحاحا في السودان، وتعد تحدياً أمنياً وسياسياً كبيراً في هذا البلد. بعد أن تمكّن من إنهاء الحرب الأهلية في الجنوب، بالتوافق على إنجاز استفتاء حق تقرير المصير لأهل الجنوب، بالوحدة مع الشمال أو الانفصال. والمعلوم أن خصم المرحلة السابقة، الحركة الشعبية لتحرير السودان، هو الشريك الأساسي لحزب المؤتمر الوطني الذي يتزعمه البشير في حكومة الوحدة الوطنية الراهنة، غير أن هذه الشراكة تعتورها منغصات، طرأ منها الكثير في العام المنصرف، وأدّت إلى توترات على غير صعيد، انعكست مثلا في إجراءات التعداد السكاني الذي شهده السودان في نيسان/أبريل الماضي. وفي الأثناء، واصل السودان في 2008 مساره في عملية الإنماء والتحديث في بناه التحتية ومرافقه ومنشآته وقدراته، وفي المضي بتنفيذ مشروعات كبرى، بخاصة في الزراعة والتنقيب عن البترول والإفادة منه والصناعات المحلية، وفي بناء سد مروي في الشمال. وهي مشروعات كبرى، يعدّ التعاون المتواصل في إنجازها مع الصين أساسياً واستراتيجياً، مما تراهن عليه السلطات السودانية، وقد نشط في العام الذي مضى، ومن المتوقع أن يزداد بوتيرة أعلى في السنة الجديدة، متوازياً مع دعم سياسي ملحوظ من الصين للحكم في الخرطوم، لا سيّما إذا ظلت العلاقات مع الولايات المتحدة على الصعوبة نفسها التي حافظت عليها واشنطن في العام الذي انقضى. بانتظار أداء الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة باراك أوباما تجاه السودان، ومدى متابعتها للقضية في العام الجديد. |
|
|||||||||||||