العدد 57 - بورتريه
 

محمود الريماوي

بعد نحو ستة عقود من النشاط الحزبي والسياسي، يتمسك يعقوب زيادين (86 عاماً) بمواقف نذر حياته لها، محتفظاً بحيويته بمناوئة رأس المال والرأسمالية العالمية، غير أن الدرب الذي جمعه بالرفاق، لم يعد الدرب نفسه..فمنذ مطلع الألفية الثالثة رعى تنظيماً موازياً للحزب الشيوعي الأم هو «حزب الشغيلة» ولم يلبث «أبو خليل» بأن اعترف بفشل التجربة الأخيرة، وبخاصة في ضوء مفاعيل قانون الأحزاب الجديد، فكان أن شجع رفاقه في الحزب المنشق على العودة إلى الحزب الأم، وهو ما حدث في ربيع العام 2008. بهذا أصبح زيادين خارج فلك الحزب، علماً أن تقدمه في السن لا يتيح الانخراط في نشاط سياسي.

في الفترة نفسها كان «أبو خليل» قد ألقى محاضرة حملت نقداً ذاتياً لا سابق له لتجربة الأحزاب الشيوعية العربية، ومنها الحزب الأردني، وقد شكك فيها بسلامة تسمية الحزب بالشيوعي «في بلد لا صناعة ولا زراعة متطورة ولا طبقة عاملة فيه» فضلاً عن نقده الموقف من الدين والتبعية للاتحاد السوفييتي.

أما من يقرأ كتاب «ليست النهايات» الصادر قبل عامين في عمان، ويضم حوارات أجرتها حنان عساف مع زيادين، فإنه يخرج بانطباعات عدة منها أن الزعيم التاريخي للحزب الشيوعي، قد ناله من «مكائد» الرفاق ما يكاد يضاهي ما تعرض له من عسف إبان الأحكام العرفية.

لم يفرد زيادين كتاباً ولم يخصص نصاً وافياً لتناول الخلافات مع الرفاق، واكتفى بإثارة هذه المسائل في سياق سيرته الذاتية ـ السياسية. وليس معلوماً لماذا آثر الخوض في هذا الأمر بصورة عرضية، وإن كانت صريحة لا مواربة فيها. لعل ذلك يعود إلى رؤية الطبيب الجراح لـ«الأولويات وطبيعة التعارضات وإنكار الذات»، رغم أن الخلافات المقصودة ليست شخصية محضة، بل تدور حول شؤون سياسية وقضايا فكرية وتنظيمية.

الأغرب من ذلك أن الرفاق وبعضهم أحياء يرزقون لم يستوفقهم النقد العلني لبعض المواقف والمحطات في مسيرة حزب الراية الحمراء، فآثروا من جانبهم تجاهلها، وكأن كتاباً يصدر عن أبرز القادة التاريخيين ومشفوعاً بالوقائع (بصرف النظر عن مدى صحتها وعن صحة الأحكام التي تترتب عليها) هو مجرد «سواليف حصيدة». فإذا كان الحزب يعزف عن الحوار مع ذاته..مع رموزه وتاريخه، فكيف مع الآخرين؟ وماذا يبقى من قيمة الحوار بعدئذ؟.

والحال أن الحزب يعتمد النقد الشفوي من التصريحات المثيرة في الكتاب قول زيادين في الكتاب إنه «على قطيعة كاملة مع قيادة الحزب منذ العام 1968» وهو ما يفسر الأزمات التنظيمية المتلاحقة التي عصفت بالحزب، وكان زيادين، كما غيره، طرفاً فيه.

عاش زيادين شطراً كبيراً من حياته وراء القضبان وقيد الإقامة الجبرية، أو مشرداً في لبنان، وسورية، وبرلين. مع ذلك فإن حياة «أبو خليل» من الغنى بحيث أنها اتسعت لخوضه الانتخابات عن القدس ونجاحه فيها، وعمله طبياً جراحاً في القدس وعمان وإن على فترات متباعدة. وقبل ذلك عانى ضنك العيش سنوات الطفولة في قريته السماكية قرب الكرك. في كتابه المذكور يورد أنه لم يتلق أية مساعدة مالية من الحزب الذي بذل له عمره، فيما حرص، على الدوام، على دفع اشتراكه الشهري. ويشير هنا إلى نقطة على جانب من الأهمية، وهي حرصه على «الاستقلال الاقتصادي».. أي عدم التفرغ الحزبي والاعتماد المالي على الحزب.

ولم يتمكن من مواصلة دراسته للطب في اليسوعية في بيروت إلا بفضل دعم زميلة لها تدعى سلوى زغيب، التي اقترن بها لاحقاً وتشردت معه ومع طفليهما آنذاك خليل وخالد في برلين بالذات، في أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي.

وبتأمل تجربة هذا الزعيم تتبدى روح التمرد التي طبعته بطابعها. فقد بدأ حياته في القرية ثم في مدرسة السلط متديناً مرهف الحس تجاه ومظاهر البؤس والحرمان الاجتماعي. وفي واقع الأمر أن روح التمرد هذه قادته إلى خياره الثاني، دون تأثير من أحد، كما يقول في محاولة لمواجهة واقع الحرمان والاستغلال. وهو ما يفسر ربما نقده لمسيرة الشيوعية العربية التي وضعت أحزابها «في مواجهة الدين، وأدارت الظهر لثمار الحضارة العربية والإسلامية.

غير أن روح التمرد امتدت إلى اتجاهات عدة، كان من بينها البيت التنظيمي ـ الحزبي «حيث لكل حزب شيوعي ستالينه الخاص به» كما يقول.

في مسيرة زيادين يسجل له تحفظه العلني على الاجتياح العراقي للكويت، وقد انفرد به بين السياسيين الأردنيين، وكان بعضهم يكتفي بالتحفظ الشفوي على ما يجري في السهرات والحلقات الضيقة.هذا الموقف كلف «أبو خليل» الكثير لدرجة أنه تعرض لتهديدات مكتومة المصدر بالتصفية الجسدية، كما أن حزبه الذي لم يكن، في واقع الحال، بعيداً عن موقفه قد قام بتقريعه، كما يقول، لمجاهرته بهذا الموقف..

الغريب الآن أن مواقع إلكترونية قريبة من أطراف عراقية نافذة، تصف زيادين بأنه «عضو لجنة وطنية أردنية للدفاع عن صدام حسين».

على أن روح القلق الفكري والتمرد لم تمتد بعد بـ«أبي خليل»، إلى تناول الجانب الاجتماعي ـ الثقافي من منظور تنويري، حيث تسود المفاهيم والرؤى المحافظة حياة المدن وطبيعة العلاقات بين أبنائها، وتمتد إلى المستوى السياسي: ترشح سياسيين عن عائلات وعشائر، معاملة الدولة أحياناً للمواطنين من منظور جغرافي ـ مناطقي، الأمر الذي لم يكن قائماً قبل نصف قرن.

يبقى أن زيادين المتقاعد عملياً من النشاط والإنضواء الحزبي منذ أكثر من عقد، لم ينل بعد اعترافاً رسمياً به كشخصية وطنية ورمز سياسي تاريخي، حيث يتعذر تناول التاريخ السياسي الحديث للأردن، دون التوقف عند شخصية زيادين وأدواره. ولعل الأمر يحتاج لالتفاتة من هذا النوع للرجل الثمانيني العفيف.

يعقوب زيادين: لكل حزب شيوعي ستالينه
 
01-Jan-2009
 
العدد 57