العدد 57 - أردني | ||||||||||||||
محمود منير
في شتاء ريتا الطويل، وقفت فتاة ترتدي البزة العسكرية الإسرائيلية على باب الشاعر الكبير محمود درويش، وقد بللها المطر تستجدي الدخول طوال ساعات الليل، لكن الشاعر - الذي لم يعشق امرأة أكثر من ريتا، أبى أن يفتح الباب لعشيقته غير محتمل فكرة أن يعانق عدوه. صورة تفيض بمعانٍ كثيرة بعد رحيل الشاعر في آب/أغسطس 2008 تاركاً وراءه منجزاً شعرياً لا يشكل استثناء في الذاكرة الوطنية الفلسطينية فقط، بل في ذاكرة الشعر العربي والعالمي، هو الذي واجه الحياة في مسارين اثنين لم ينفصما عن بعضهما: الشعر وفلسطين. غربل محمود درويش تجارب شعرية عربية وعالمية منتجاً إياها بعجينة درويشية خالصة، في بحث لم ينقطع عن مفهوم تناوله في حواراته الصحفية وجلساته الشخصية، هو مفهوم «الشعر الصافي» الذي يتخلص من الشوائب والزوائد ولا يترك ذرة غبار واحدة في نسيجه، شعر لا يتخلى عن موروث الإيقاع والوزن والموسيقى، كما أنه لا يتخلى عن الرؤية ويحتفي باللغة وبلاغتها. مخلصاً للشعر وحده، تجوّل لاعب النرد في الكون حتى سئم جميع الأماكن بعد أن استبطنها كلّها في شعره الذي أراده تحرراً من الأيديولوجيات والشعارات، فانعتق من القصيدة المباشرة التي تحملها الثورة ويؤطرها الوطن، إلى قصيدة تؤنسن «فلسطين» وتؤنسن «العدو» كذلك، ليحمل فلسطينه إلى الكون كلّه، لذلك لم يختر دوريش لفلسطين أن تقيم في الأسطورة لئلا يفقدها، كما نزع الأسطورة عن عدوه حتى لا يهزم في معركة غير متكافئة معه. بعد رحيله، ينتظر محمود درويش قراءة نقدية تليق بصاحب الجدارية، وتخلّص النقد من أسطرة أسبغها على شعره لأنه لم يرتق إلى مستواه. |
|
|||||||||||||