العدد 57 - كتاب | ||||||||||||||
من أغرب ما سُمع من كلام السياسة حتى في هذه الأيام الغرائبية، ما كرره المسؤولون الإسرائيليون مثل لازمة متكررة. هكذا تكلم أولمرت، ومن بعده ليفني حتى آخر القوم: أ. "لسنا ضد الشعب الفلسطيني، نحن ضد حماس... هذه ليست حربا ضد الفلسطينيين. إنها حرب ضد حماس..."؛ ب. "نحن لسنا أعداء، بل لدينا الأعداء أنفسهم: حماس وحزب الله وغيرهم". الحقيقة أن أهداف هذه الحرب العدوانية على قطاع غزة لا تختلف كثيرا عن سجالها العلني، فالقصف الجوي والقصف الإعلامي، صناعة الموت وصناعة الأجواء، ليسا مختلفين كثيرا كما يبدو. ماذا يعني ان إسرائيل ليست ضد الفلسطينيين؟ بحسب هذا المنطق لا يوجد استعمار ضد شعب من الشعوب. فهو فقط يريد بلده، وسلبه ثروته وإرادته. فإذا خضع الشعب لهذا المصير "المقدَّر" له، فلا أحد ضده. وتبرز المشكلة إذا قاوم الشعب هذا المصير الذي يراد له. وحتى عندها يصبح الاستعمار ضد المقاومة وليس ضده. وعندما يقوم بمحاربة المقاومة، فإنه يقصف المدنيين والناس، ليس لأنه ضدهم بل لأن المقاومة تعيش وتسكن بينهم. على الشعب أن يتحمل القصف صامتا، فهو ليس موجها ضده، ولا ضد الأطفال الذين سقطوا، بل ضد المقاومة التي أنجب. وهذا طبيعي، فالمقاومون من أبناء الشعب، وطبيعي أن يعيشوا بين صفوفه. وإذا كان هذا صحيحا في كل مكان فهو في غزة مسلم به. لأن غزة أقرب الى معسكر اعتقال مكتظ مزدحم مغلق. يعيش فيه الناس دونما تمييز بين غني وفقير ،مقاوم وغير مقاوم، ومنتمٍ لحماس وغير منتمٍ لها. لا غابة ولا جبل، ولا مناطق محيدة يلجأ إليها الناس كما في لبنان. وحتى عندما يكون القصف غير عشوائي، فإنه يكون عشوائيا بالنتيجة... ولا يمكن للحرب هنا إلا أن تكون جريمة حرب. هذه حرب على معسكر اعتقال، غارات متواصلة على "غيتو" ضخم، تستخدم فيها طائرات "أف 15" و"أف 16". لذلك فهي أجبن حرب في التاريخ الإسرائيلي، وربما في التاريخ الحديث. لا توجد دولة استعمارية تستخدم هذا النوع من السلاح ضد هذا النوع من الأهداف. وعلى وقع الانفجارات تطلع علينا وزيرة خارجية إسرائيل الطموحة لتخاطب الفلسطينيين كمشاهدين وفي فمها كلام من نوع: "لسنا ضدكم". يا للهول. إسرائيل تريد وطن الشعب الفلسطيني. لقد شردته في جميع أصقاع الأرض ليس لأنها ضده، بل فقط لأنها تريد وطنه. وهو لا يريد أن يتنازل بطيبة خاطر. هذا كل شيء، ولكنها ليست ضده. ولو خضع وقبل بالشروط الإسرائيلية فلن يصيبه منها حربٌ ولا قتال. ولو قبلت المقاومة بمضاعفة الاستيطان بعد أوسلو، وباستمرار تهويد القدس، وبالانسحاب من طرف واحد من غزة مع بقائها مطوقة كالسجن ودون أن تصبح ذات سيادة، لما كانت هنالك مشكلة إسرائيلية مع غزة. لو انتخب الشعب الفلسطيني من أرادته إسرائيل أن ينتخب في العام 2006 لما نشأت مشكلة. ثم، وبعد هذه الانتخابات، لو قبل الشعب الفلسطيني بالحصار التجويعي راضيا بوصفه نتيجة منطقية للانتخابات، ولو استنتج من هذا الحصار النتائج المرجوة منها وأطاح بمن انتخب، ولو عدّ حماس سببَ الحصار وليس من يفرض الحصار، لما كانت هنالك مشكلة بين إسرائيل والقطاع. هذا هو المنطق الإسرائيلي الفظيع الذي يرافق القصف الوحشي على قطاع غزة (وربما اجتياحها مع نشر هذه السطور). وهو منطق يكرره بعضهم على فظاعته بالعربية بين السطور. وهو منطق يتضمن هدف العدوان. والهدف هو قبول الشعب الفلسطيني بالشروط الإسرائيلية في حالة التوصل إلى تسوية، وبالاستكانة والهدوء في حالة عدم وجود تسوية. لا مشكلة مع شريك عربي في تسوية يقبل فيها شروط إسرائيل التاريخية، ولا مع خصم هادئ، لا يقبل بالتسوية، ولكنه يرضى على الأقل بموازين القوى فيعيش، ويترك الناس تعيش في ظل الاحتلال والظلم، يرفض التسوية نظرياً فقط أما عملياً فينشغل عن الصراع مع إسرائيل بقضايا "أكثر أهمية" مثل الحفاظ على سلطته. وأشك إذا ما منحت إسرائيل حركة حماس حتى مثل هذه الفرصة الأخيرة. لقد حاصرتها منذ اليوم الأول على انتخابها، وانضم "العالم" إلى الحصار، ولم تمنح حماس فرصة حتى للانشغال عن الصراع مع الاحتلال بسلطتها. لا يهم إسرائيل كثيرا من يحكم القطاع داخلياً بعدما انسحبت منه ما دام يقبل بالشروط الإسرائيلية في حالة تسوية أو بالهدوء في حالة عدم التوصل لها. لقد فرض الحصار التجويعي فعلا. وكان على حماس من وجهة نظر المطالبين بعودة "التهدئة" حاليا، أن تقبل بالهدوء ليس فقط دون زوال الاحتلال، وليس فقط مع استمرار الاغتيالات في الضفة الغربية، بل حتى دون فك الحصار. العدوان على قطاع غزة استمرار للحصار بوسائل أخرى. الحصار عدوان. والقصف عدوان. عندما فشل الحصار التجويعي على القطاع في كسر إرادة أهلها، لم يعد ممكنا الاستمرار في إحكامه فترة طويلة. أصبح محتما لمن يريد الاستمرار في النهج نفسه لتحقيق الهدف نفسه أن يقوم بعملية عسكرية. كان واضحا أن هذا "الاستحقاق" سوف يحل مع نهاية مرحلة ما سمي زورا وبهتانا "التهدئة". كانت التهدئة عدوانا مسكوتا عنه، كانت عدوانا يرد عليه بتهدئة. حصار تجويعي دون رد. وكان واضحاً أن العدوان سيحل مع المزاودة بين القوى السياسية الإسرائيلية في التنافس الدموي، على كسب قلب الشارع الإسرائيلي المجروح الكرامة من لبنان. ولكن الهدف سهل من الناحية العسكرية، وكل قنبلة تلقى على حي مكتظ تقتل. الثمن رخيص والحرب جبانة، ليس فيها بطولة، ولا يستعيد فيها أي جيش هيبته. وحتى المديح الذي تكيله وسائل الإعلام الإسرائيلية لإيهود باراك على المكر والدهاء ما هو إلا خداع للذات. فالجميع كانوا يعلمون أن إسرائيل تستعد لشن عملية عسكرية ضد غزة. بل وكتبت الصحف عن عملية خلال أيام. لكن ماذا تفعل غزة حتى لو علمت؟ هل تعلن عن حالة تأهب في صفوف جيشها الجرار، أم تموه قواتها الجوية طائراتها في المطارات؟ نحن نتحدث عن حي فقير، عن مخيم لاجئين كبير ليس فيه ملاجئ. إنها وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها التي تتحول إلى جوقة تطبيل وتزمير في بداية كل حرب، ثم تنقلب على المسؤول فقط إذا فشل في تحقيق الأهداف، أما إذا ارتكب جرائم ونجح فلا بأس، المهم ألا يفشل، وألا يسقط الكثير من الإسرائيليين. كما كان واضحاً أن من لم يأت إلى حوار القاهرة للاعتراف بانتصار الحصار وبنتائجه السياسية المستحقة سوف يدفع الثمن. كانت هذه هي الفرصة الأخيرة التي يلام عليها من لم يستغلها. تماما كما أُعْذِرَ من أنذر ياسر عرفات عندما لم يقبل نقاط كلينتون-باراك في كامب ديفيد، وكما أعذر من أنذر سوريا بعد الحرب على العراق، وكذلك من أنذر حزب الله على طاولة الحوار التي سبقت تموز/يوليو 2006. جرى التحضير للعدوان بعد تنسيق أمني وسياسي مع قوى عربية وفلسطينية، أو إعلامها على الأقل، حسب نوع ومستوى العلاقة. لا تناقض بين تنسيق العدوان مع بعض العرب وبين إدانة العدوان الصادرة عنهم. بل قد تكون الإدانة نفسها منسقة. يمكن تخيل أن يجري هذا فعلا بالصيغة التالية: "نحن نتفهم العدوان ونحمل حركة حماس المسؤولية، وعليكم أيضا أن تتفهموا اضطرارنا للإدانة... قد نطالبكم بوقف إطلاق النار، ولكن لا تأخذوا مطلبنا بجدية، لكن حاولوا أن تنهوا الموضوع بسرعة وإلا فسوف نضطر إلى مطالبتكم بجدية". جاء رد الفعل الشعبي العربي سريعاً على الحرب. وفاق التصورات. فهو غاضب ناقم لا يرى في الحرب شطارة أو بطولة إسرائيلية كما نظر إلى حروب سابقة، بل بعدّها جريمة ضد المدنيين. كما لا يأبه بإدانات جزء كبير من النظام الرسمي العربي ويصر على مقولة التواطؤ. كل ما يمكن أن تفرضه إسرائيل بعد هذه الحرب لا يحظى بشرعية، ولذلك لا يمكن أن يعمر. وبالعكس، فبعض القوى التي أسست موقفها على واقعية الشارع وبراغماتية القبول بموازين القوى، فقدت شرعيتها في ظل القصف الإسرائيلي. بقي أن تدرك هذه القوى أن الحسابات القصيرة النفس في إسرائيل والمسماة "توفير الأمن للمستوطنات"، أو "أمن حدودنا الشمالية"، أو "ضمان أمن القرى الحدودية" هي أكثر أهمية واستراتيجية لها من قوة وشرعية ما يسمى معسكر الاعتدال عربيا، وأن هذه ليست مزاودة انتخابية لكسب مقعدين في انتخابات الكنسيت، طبعا هذا وارد في الحسابات، ولكنه ليس الحساب الأساس. هذه مسألة أمن قومي إسرائيلي تجمع علية القوى السياسية الإسرائيلية يسارها ويمينها. وقوة الردع والجدار الحديدي العسكري يأتي في إسرائيل قبل التسوية وقبل التفاهم مع "قوى الاعتدال". وهذا ليس موقف اليمين الإسرائيلي كما يعتقد بعضهم. بل هو موقف إجماع قومي. تختلف إسرائيل على أساسه (وليس عليه)، وتنقسم حول إمكانية السلام وحول ضرورة إجراء بعض التنازلات الإقليمية في ظله أم لا. |
|
|||||||||||||