العدد 9 - ثقافي | ||||||||||||||
زوربا إربد. التوأم السيامي لأمل دنقل” وغيرها الكثير من الألقاب أطلقت على رجل اعتكف عشرات السنين في محترف للنحت على الخشب في شارع “ راتب البطاينه “ ( إربد )، فخرج بمجموعة من المنحوتات النادرة،والمواقف الفلسفية إنه “رأفت العزام” مواهبه متعددة بين النحت والعزف على آلة العود والقصة القصيرة .الذي غادر هذه الدنيا قبل أيام تاركا إرثاً إنسانياً وفلسفياً زاخراً . في عام 1950 ولد “أبو نيرودا” في قرية الباقورة ليتسلسل شريط حياته حلقة بعد أخرى ، درس الصحافة والإعلام في جامعة بيروت وكان رئيس اتحاد الطلبة العرب إلا أن تسارع الأحداث اضطره الى قطع دراسته. وخلال فترة طويلة من حياته انخرط في العمل السياسي ، من دون أن يندرج في أي حزب ،فقد كان صديقا لفتح وللشيوعيين ،وسجن لفترات طويلة في سجن المحطة وغيرها من السجون ،وصلت إلى اثني عشر عاماً .كما صدر في حقه حكم إعدام بتهمة انتمائه إلى حركة محمود الروسان في اربد ،إلى أن حصل على عفو ملكي إبان عهد الملك الراحل الحسين. الشاعر المصري “أمل دنقل” والتشيلي “بابلو نيرودا” أبرز الأدباء الذين تأثر بهم رأفت العزام في مسيرتة الأدبية ونمط حياته. يتحدث ابنه البكر “نيرودا” للسّجل أن تسميته جاءت مع حلول الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر التشيلي “بابلو نيرودا” ونشر له تهنئة في الصحيفة مما كان مستهجناً ومستغرباً في ذلك الحين ،شقيق رأفت الأكبر تأثر به وسمى أولاده “ سقراط وأفلاطون. يواصل نيرودا حديثه “في العام 2001 عدنا من الإمارات بعد رحلة طويلة عمل أثناءها والدي في الصحافة إلا أنه لم يستطع التأقلم مع الحياة هناك لذلك فضل العودة إلى الأردن، اشترى مثقب (درّل) وبعض الأدوات وبدأ ينحت ويطوع الخشب والمنحوتات بشكل غريزي فطري ،بخاصة أنه لم يدرسها أو يتعلمها بشكل أكاديمي، بدأ الجيران ينزعجون من الأصوات المرتفعة ويتململون. وعندما علم بذلك قال أنا شاعر فيهم، وذهب إلى محل وتطور في العمل إلى أن أصبح وجهة ومحترفا لكل الراغبين في البحث عن الفن ، وبات مصدر رزقه المحبب له”. أصدقاؤه كثر، ومن جميع الطبقات والمستويات الاجتماعية “فقراء، مثقفون، حزبيون، مشردون جميعهم ترددوا على منزله ومحترفه ، أبرزهم في سنواته الأخيرة كما قال ابنه نيرودا” رياض جرادات ، محمد الغزو، علي شميل . في مطلع هذا الشهر استحضر الموت كثيراًً، فبعث رسائل هاتفية للعديد من أصدقائه مثل موفق محادين، أحمد ديباجه مقتبسة من نص للفيلسوف الإغريقي سقراط (أنا لا أعرف ماذا يكون الموت، ربما يكون أمراً طيباً، فأنا لا أخافه ولا أخشاه، ولكنني أفضل ما يحتمل أن يكون على ما أعرف أنه شر). في مساء الخامس من الشهر نفسه ، كتب رأفت العزام «أنا لم أجرّب الموت رميا بالرصاص.. وعلى أية حال لا أريد الموت بهذه الطريقة، وأنا لم أجرّب الموت شنقاً.. ومع أنني شاهدته عدّة مرّات إلا أنني لا أريده، لم تطحن عظامي الدبّابات ولا الجرّافات ولا سيارة يقودها أحمق.. وهنا أيضا لا أطيق الموت بهذه الطريقة، هناك طريقة حديثة وهي قديمة أيضا.. الطعن في الصدر أو البطن وأماكن أخرى أو ضرب الرقاب، أي ذبح الإنسان كالدجاج والخراف والبقر والجمال وربما الخنازير، لم أجرّب الموت بالجلطة الدماغية أو القلبية.. موت الدماغ أفهمه جيدا.. لكن موت القلب سيخلف ألماً مرعباً للدماغ..». «كيف أختار الليلة موتي؟». في ظهيرة اليوم التالي ذهب إلى الطبيب يشتكي أعراضاً للجلطة القلبية..وبعدها بقليل سقط جثة هامدة . عن تفاصيل حياته اليومية تحدث ابنه «نيرودا:» كان يحب الاستيقاظ في الثامنة صباحاً ، كان يحب القهوة كثيرا ً ويتناول افطارة مع بيت جدي يطمئن على أوضاعهم وأحوالهم ثم يتجة إلى المحترف” يضيف نيرودا “ إحساسه مرهف وعال جدا وكان يتأثر ويحزن لأبسط الأمور، ومن الأمثلة على ذلك أنه عندما كان يشاهد معارك وصراعات أو ظلماً على شاشة التلفاز في أي مكان كان ينتابه الحزن ويبقى على هذه الحالة لأيام طويلة. كتب القصة القصيرة بشكل متفرق وكان ينشر بعضها في الصحافة بين الحين والآخر، إلا أنه لم يرغب في إصدارها لسبب بسيط وهو أنه لايحب الشهرة أو الأضواء. وكان دائما يفضل البقاء خلف الكواليس. كان زاهداً في الحياة ويعلمنا ذلك ، فعندما كنت أقول له أنظر إلى هذه السيارة ما أجملها ، يقول لي: يابني كل هذه الامور ستزول والجوهر ومعدن الإنسان هو مايتبقى “ الكثير من أصدقائه كتبوا في رثائه . موفق محادين قال فيه “ كانت ذاكرته الثقافية والمعرفية حية ورفيعة بصورة مدهشة .فاستعادته للرحابنه وفيروز وزكي ناصيف ودنقل ونيرودا وبريخت وغيرهم كانت خضراء يانعة .تحيلنا دائماً إلى المقاربات النقدية حول دور القاريء ليس في اكتشاف النصوص، بل في إعادة إنتاجها “ وأضاف محادين في مقالته التي نشرها في” العرب اليوم” بعنوان ( الموت الثاني لدنقل ) “ الحق أن دنقل هو توأم روحه الذي لم يفارقه أبداً ولعله استعجل رحيله ليؤانسه حيث مضى . وليس مصادفة أن يتذكر رأفت في كوبه الأبيض الأخير معنا ، قصيدة دنقل التي كتبها في غرفة العمليات التي غادرها إلى المقبرة بيضاء هي الأشياء ، رداء الطبيب والممرضات وملاءات السرير وأربطة الشاش والقطن وكوب اللبن ، وكل هذا البياض يذكرني بالكفن” صديق آخر ، جميل النمري “ استذكره وقال فيه “ هو لم يكن يزعج أحداً أو يطلب لنفسه شيئا ، كان يكتب القصة القصيرة، ويحفر على الخشب، ويعزف على العود، ويثمل مع الأصدقاء. كان يريد الأشياء لذاتها ويتحمل الفقر والقسوة كضريبة لنمط حياة ،اختاره أن يكون هكذا . لا أذكر متى إلتقيته أول مرة لكن الحدث الأول محفور في ذاكرتي ، كانت جنازة المرحوم أخي الصحافي ميشيل ، أتيح لي الخروج من السجن من أجل الجنازة التي كانت تسير بصمت. ولم يعجب ذلك رأفت فأخذ بالهتاف للشهيد “. الشاعر الأردني المقيم في لندن أمجد ناصر وصف رأفت العزام بزوربا الشمال وقال في وفاته “ فقدت أشياء كثيرة في ترحلي .لم أعد أملك هدايا أعطيت لي .لكن أمامي الآن وأنا أكتب هذه الكلمات ميدالية نحاسية كبيرة تحمل وجه بوشكين ، أهدانيها رأفت العزام عندما زرته في بيته أول مرة . أراد أن يعطيني شيئاً بعد انتهاء تلك السهرة الصيفية في ليل إربد “. |
|
|||||||||||||