العدد 57 - كتاب
 

ظل تراث الشعوب الثقافي مثار فخر للوارثين من الأجيال اللاحقة، وموضع اعتزاز الباحثين والدارسين، وثمة في تراثنا الشعبي مواطن ضوء كثيرة تفصح عن الممارسات الإنسانية التي كانت جزءاً من سلوك اجتماعي يجمع بين التواصل البشري والتساند الاقتصادي، ويرسخ المحبة بين الأجيال والفئات المختلفة.

أدى الموروث الثقافي أدوارا بارزة وأساسية في صنع مفردات الحضارات الحديثة التي استلهمت الكثير من عناصر قوتها ونمائها من الثقافة الشعبية والموروث الكلاسيكي لشعوب حية، مثل الشعبين الصيني والياباني..

في الصين، يقوم المسنون بتعليم الأجيال الجديدة طقوسا ومهارات وفنونا متوارثة منذ آلاف السنين للإبقاء على التقاليد الجميلة التي تميز هويتهم وبيئتهم، فهذه التفاصيل الثقافية والفنون والطقوس الاحتفالية لا تعلّمها المدارس، بل تنتقل من جيل إلى آخر في حرص وتفانٍ من المسنين ناقلي الخبرات إلى الصغار أو الثقافات الأخرى، أما في بلادنا العربية فإننا نجد عزوفاً عن الموروث الثقافي، والشعبي منه بخاصة، من الشباب، واستخفافاً به لصالح كل جديد يفد إلينا ، فنتبناه وننبذ ما لدينا وننساه..

في الأردن جمعية أسستها سيدات يعملن في المجال العام لإحياء جوانب إنسانية في الموروث العربي، ونقل ممارسات سامية حدثتنا عنها الجدّات والمصادر التراثية، إلى حيز التعامل اليومي الخيري الموجّه للأطفال. تحمل الجمعية اسم «المباركون الصغار»، وتهدف إلى تقليص الفجوة بين مستويات الأطفال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتستثمر مناسبات الأعياد التقليدية لتفعيل هذا التوجه.

ارتأت السيدات العاملات في هذه الجمعية إحياء شخصية «أبو العيد» الموجودة في تراثنا الشفاهي الثقافي العربي، وتتداولها القصص والحكايات التي تروى في أمسيات الأعياد، عن رجل شاب جميل المحيا يرتدي ثياباً فاخرة ويأتي بالهدايا للأطفال صباحات الأعياد، وسجلت السيدات ابتكارهن أو إحياءهن لشخصية «أبو العيد» لتكون رديفة وليست تقليداً ولا نسخاً لشخصية «بابا نويل» العالمية، مع أن الشخصيتين تتفقان على نبل الأهداف ومنح السعادة للأطفال المحرومين.

تقوم شخصية «أبو العيد» بالعمل نفسه في الأعياد، وتبهج نفوس الصغار ولا تدخلهم في متاهة الخرافة التي تحيط بشخصيات من هذا القبيل، بل تجعلهم على يقين من أن الشخصية رجل حقيقي يعيد إلى الحياة وجهاً من وجوه بناء العلاقات الإيجابية بين الأجيال. لا يقتصر لقاء الأطفال بشخصية «أبو العيد»، على توزيع الهدايا، بل سيتطور إلى تقديم عروض لسرد الحكايات الشعبية في المناسبات نفسها، فيجمع بين الوظيفة الاجتماعية والثقافية لنقل بعض كنوز الموروث الحكائي للأجيال الجديدة.

وردت أخبار عن هذه الشخصية في بعض المجتمعات العربية، بخاصة في العصر العباسي الأول عصر الرفاء والتباين الاجتماعي والاقتصادي، حيث كان ظهورها أمراً متساوقاً مع الحاجة لتحقيق شيء من العدالة بين الأطفال وتقديم العطاء والرعاية لهم. على هذا الأساس قامت إحدى مؤسسات الجمعية (السيدة أمل عيسى) المتخصصة بتصميم الأزياء التراثية العربية، بابتكار ملابس من العصر العباسي لشخصية «أبو العيد» اعتمدت اللونين الأبيض والأزرق، لرمزيتهما في النبل والعطاء والوفرة لدى الذائقة العامة في مجتمعاتنا، وزينت الرداء بكتابات مطرزة بالخط العربي لتقدم للصغار مفهوماً إضافياً عن جماليات الموروث الاستعمالي، وإبداعات الأقدمين الذين ما كانوا ظلاميين، ولا كارهين للجمال، بل مبتكرين وفاعلين في تطوير الحياة، أسوةً بالصينيين الذين تقدموا على مختلف الصعد العلمية والاقتصادية والمعرفية والمعلوماتية، وحرصوا بالقدر نفسه على إظهار الجوانب المضيئة في ثقافتهم التقليدية، دون أن يشكل ذلك عائقا لوتائر التطور، بل سانداً لها ومؤكداً لمرونة مفهوم الهوية التي تأخذ بأسباب الجمال والتواصل وقبول المختلف.

شخصية (أبو العيد) التي انطلقت في العام 2007، في عيد الفطر، تقوم من بين غبار السنين لتحيي تقليداً عربياً قديماً يوازي ما يقدمه بابا نويل المحبوب لأطفال العالم.

كم من التجليات الرائعة بوسعنا العثور عليها في طوايا موروثنا وثقافتنا الشفاهية لتفعيلها وإحيائها، لنثبت أن لمجتمعاتنا إسهامات عملية في التواصل الإنساني والمحبة وقبول الاختلاف، وإشاعة السعادة بين البشر، على الضد مما تروج له الحروب والممارسات المتطرفة التي تشيع الكراهية والعنف والقتل لتدمير ما حققه العقل وما أنجزه الإنسان من إبداعات على مر العصور.

لطفية الدليمي: مانح الهدايا.. شخصية من تراثنا
 
01-Jan-2009
 
العدد 57