العدد 9 - ثقافي | ||||||||||||||
هذا التقلب بين الشعر والرواية والفوتوغراف والتشكيل والنقد، ليس السؤال أيهما يأخذ الشرعية أو عدمها، ولكن كيف يمكن أن يشكل نصا جديدا في تراسلاته التجنيسية؟ أعتقد أن مختلف هذه التجارب التي عشتها، كاتبا أو متذوقا، قد وجدت طريقها إلى أعمالي، بصور متفاوتة، ولعل كتابكَ (العين الثالثة) فعلاً، هو من بين أهم الدراسات التي تأملت هذا الموضوع بصورة معمّقة. وفي هذا الإطار أظن أن أوسع تجل لهذه التراسلية بين الأجناس الأدبية والفنية قد وجد حضوره في روايتي (شرفة الهذيان) التي التقى فيها الشعر، السرد، الصورة، اللوحة، المسرحية، الخبر الصحفي والفوتوغراف. وأظن أن الدراسات التي نُشرت حولها كانت مهمة للغاية. وقد التقطت هذا المغاير الذي قدمته هذه الرواية.
يقال إن التنقل بين الحقول ينزع الشرعية عن المنجز، فانتقال الشاعر إلى الرواية ينزع الشرعية عن الشعر، مدى صحة ذلك؟ لست مع (يقال) هذه، وبخاصة أن مرجعها هو ثقافة الثرثرة التي تسود ساحتنا الأدبية بشكل مريع. أعتقد أن المسألة قائمة في مدى وعي الكاتب للنوع الأدبي الذي يكتبه، كي يستطيع تقديم اقتراحات فيه، وقد تأتي رواية وتتغلب على ديوان شعري في تجربة كاتب ما، أو العكس، لكنه لا يخوض مباراة مع نفسه، إنه يحاول التعبير عن روحه، ولنتذكر أن ما تقوله الرواية لا تستطيع القصيدة أن تقوله، كما أن القصيدة يمكن أن تكون جزءا من الرواية، ولذا نحن بحاجة للرواية، ربما، أكثر من حاجتنا لأي نوع آخر. فما لدينا من احتياط شعري يكفينا لخمسمائة عام قادمة، أما أن نعرف ما يحدث فينا الآن، فيلزمه عشرات الروايات، لأن الرواية هي الفن الأكثر قدرة ومعرفة وشجاعة في تعرية واقعنا المر اليوم. ما هو مهم أن يكون المرء نفسه حين يكتب الرواية ويكتب الشعر، لا أن يكون مثل دكتور جايكل ومستر هايد. وأنا أندهش في الحقيقة من هذه الغيرة المرضية على من سيأكل الآخر في الكاتب، الشعر أم الرواية، فالحياة لا تأكل الحياة هنا بل ترعاها، في وقت تلتهمنا فيه أبشع أشكال الموت وإدارة الظهر للحياة شعرا ورواية وهواء وماء وجمالا. ونحن نُقادُ لمذود واحد بكل هذا الصمت.
ماذا بعد “زمن الخيول البيضاء” في إطار ما كتب حول المأساة؟ ثم ألا يمكن التخوف من الانزلاق إلى التوثيق في مقابل جماليات الرواية؟ - لست أدري ما الذي يمكن أن أكتبه بعد (زمن الخيول البيضاء)؛ فهذه الرواية حضَّرتُ لها أكثر من 22 عاما، وأخذت مني الكثير من الجهد، وهي تلاقي منذ صدورها نجاحا استثنائيا على مستوى التوزيع والنقد ورسائل القراء التي تصلني من كل مكان. وقد طُرحت في أل (بي بي سي) كأفضل رواية صدرت العام الماضي. وهناك عروض مهمة للغاية لتحويلها إلى عمل درامي. أما مسألة الانزلاق إلى التوثيق فهذه مسألة يقع فيها كثير من كتاب (بريد القراء)، أما (الروائيون) فلا يمكن أن يقعوا فيها.
يقال إنك من أكثر المبدعين الذين يحملون مشروعهم الإبداعي بموازاة النشاط الإعلامي؟ - أنا غير مستاء من حضوري الإعلامي، والنقدي. فخلال العامين الماضيين صدرت خمسة كتب عربية مهمة عن تجربتي الأدبية، شعرا ورواية، وهذا عدد كبير، ليس من السهل أن يصدر عن كاتب واحد في أي مكان، وهناك أكثر من عشر رسائل دكتوراه وماجستير في أوروبا والعالم العربي عن تجربتي، وهذا أيضا أمر مهم، ويعني أن هناك ما يمكن أن يجده أساتذة الجامعات والنقاد لديّ للكتابة عنه وتكليف طلبتهم. وهناك كتابان صدرا بلغتين أجنبيتين العام الماضي 2007، وتم تحويل رواية لي إلى مسرحية لم تزل تعرض في إيطاليا منذ أكثر من عام.
وماذا عن الجامعات الأردنية والمؤسسات الإعلامية؟ ما هي علاقتك بها اليوم؟ أستطيع القول إنني خلال السنوات العشر الماضية، قرأت شعري في عشرات الجامعات والمؤسسات الثقافية العربية والعالمية، ولكن لم أدع إلى أي جامعة رسمية هنا منذ أكثر من عشرين عاما، كما أن آخر حوار أجراه معي التلفزيون الأردني كان قبل سبعة وعشرين عاما. وليس الأمر مسألة شخصية لأن بعض الزملاء أيضا يعانون من هذا. وبصراحة، لم يعد من السهولة أن نقرأ في الجامعات الرسمية التي كنا نقرأ فيها أيام الأحكام العرفية، ولذا كان من الطبيعي، وهذا الأمر مؤشر مهم، أن ينتصر تيار التكفير على تيار التنوير في جامعاتنا، وأن يتراجع النموذج المنفتح مقابل سطوة النموذج المغلق، وقد كتبت عن هذا بالتفصيل في كتابي (السيرة الطائرة/ أقل من عدو، أكثر من صديق). وأعود لمسألة الحضور الإعلامي فأقول: ربما يكون هناك حضور ما، إعلامي، لي، أو لهذا الكاتب أو ذاك، على المستوى العربي وكثير من دول العالم. ولكن في الأردن ليس هناك أكثر من الخبر الصحفي أو دراسات يكتبها في الأغلب كتاب عرب، وسأضرب لك مثالا واحدا وهو أن أكثر من خمسة منابر صحفية عربية أجرت حوارات معي بمناسبة صدور (زمن الخيول البيضاء)، لكن لم يجر هنا أي حوار!! كما أن كل ما كُتب عن الرواية حتى الآن كتبه كتاب عرب. نعم، لا يستطيع الكاتب إلا أن يحلق بعيدا، ما دام غير مسموح له بالهبوط على الأرض هنا. وساحتنا الثقافية بدأت ملامحها تتضح بصورة تجعلنا نتساءل عن مستقبل الثقافة والمثقفين. وأنا قانع بما لدي، فدائما كنت أقول إنني لم أكن في أي يوم من الأيام ابنا لمؤسسة إعلامية أو ابنا لتنظيم أو ابنا لنظام أو ابنا لعائلة كبيرة لكي يُحتفى بي كواحد من المنجزات الوطنية!! يقال إن كثيرا من المعارك التي خاضها نصك مع الرقيب قد تم تضخيمها دون مبرر، ماذا تقول؟ بعيدا عن أي مزاودات، كانت تجربتي الأدبية واحدة من أبرز التجارب الأدبية جرأة، ومنذ بداية الثمانينات، وليس هناك كاتب منعت أمسياته كما منعت أمسياتي، أو صودرت كتبه كما صودرت كتبي، كما منعت من السفر ست سنوات، وحين تمت صودرت روايتي (طيور الحذر) عام 1996 ، اتصلت بوزير الإعلام وطلبت منه التدخل لحسم هذا الأمر بهدوء، وانتظرت لمدة أسبوعين، إلى أن بدأ يتهرب مني، وعندها طلبت من عزيزنا الراحل مؤنس الرزاز أن يأتي لي بجواب واضح، وكان الجواب: الرواية مصادرة. وعندها كان لا بد لي من الدفاع عن روايتي، لأني في الحقيقة أدافع عن رأيي، عن كلماتي، أدافع عن مبادئي، ولم يجدوا في النهاية سوى أن يسمحوا بدخول الرواية، بعد أن تحركت المؤسسات الثقافية والصحفية، وتكرر الأمر مع الأعمال الشعرية في عام 1998، بعد منحي جائزة سلطان العويس، كما لو أنهم يقولون لي هنا (هكذا نكرمك، بمنع كتبك!!) وعادوا وتراجعوا. وحدث الأمر مع ديوان (بسم الأم والابن) حين تم تكفيري من قبل شيخ سوري متزمت، وقاتلتُ ومعي الكثير من الشرفاء من الكتاب هنا وفي العالم العربي إلى أن انتصرنا ضد هذه الظلامية. أما ما حدث معي منذ عام فقد كان كارثة حقيقة على الثقافة في الأردن، إذ للمرة الأولى يتم تحويل كاتب إلى المدعي العام، بسبب ديوان نشره قبل اثنين وعشرين عاما!! وكانت التهم الموجهة لي هي التهم نفسها التي وجِّهتْ للنواب الثلاثة الذين ذهبوا لتقديم العزاء لأهل (الزرقاوي!!) كما بيّن لي فريق المحامين الذين انتخبتهم رابطة الكتاب للدفاع عني. ولذلك كانت المعركة كبيرة، وخطيرة، وأحس بها شرفاء الكتّاب هنا، ووقفوا بشجاعة في وجه القرار، وحين لم تتراجع دائرة المطبوعات، كان لا بد من أن أنقل الحلقة إلى مجال أوسع، ولذا كان من الطبيعي أن أطالب بتدخل أصدقائي الكتاب في دول كثيرة في العالم. وحين قال لي ناشري ماهر كيالي، إن هناك وعدا بسحب القضية، أرسلت إليهم فورا، وطلبت منهم وقف التدخل لأن هنالك وعداً بسحب القضية. وهذا ما حصل، وكان يمكن أن تستمر الحملة إلى أن يرسلوا إلي كتاب سحب القضية من عند المدعي العام، كما حدث في النهاية فعلا. ولكن مقابل هذا الشرف الكتابي الرفيع الذي أبداه مئات الكتّاب في الأردن والعالم العربي والعالم، والموقف الذي لن أنساه لرابطة الكتاب الأردنيين، قام أحد أبناء (يُقال)!! بنشر موضوع في إحدى الصحف المحلية يقول إن هذه القضية من اختراع الكاتب الذي هو أنا، وحين تكلمت معه/ معها هاتفيا، كان الجواب بأنك تملك حرية الرد، فقلت هذا كلام أسخف من أن يُرد عليه، واكتفيت بإرسال كتاب سحب القضية بالفاكس للصحيفة وكتبتُ عليه (للعلم فقط، وليس للنشر)!! وهذا أمر معيب. وهو من أسوأ أشكال الشخصنة، ولو كانت الصحافة تسمح بكلمة غير كلمة معيب لقلتها.
ثمة صراعات في الساحة الشعرية على المقعد الأول، أحيانا تتجاوز النص إلى ما هو شخصي، كيف نفرق بين النص والشخصي، وهل يستطيع المبدع ذلك؟ المعيار الأخلاقي موجود لدى عدد كبير من كتابنا وكاتباتنا، لكن المسائل الشخصية متفشية كالإيدز عند بعض الكتاب، وبعضهم للأسف يستطيعون تقديم شيء مهم، وتطوير تجاربهم، لكنهم يعتقدون بأن ساحتنا الثقافية هي أهم وأخطر ساحة في العالم، وينسون أن الثقافة في العالم مثل لوحة فسيفساء، قد يكون لنا فيها قطعة أو عشر قطع وقد لا يكون. ثم ما الذي يعنيه، ثقافيا، أن يكون هذا الكاتب أو ذاك أهم شاعر أو قاص أو روائي أو ناقد في الأردن؟ هذا لا يعني أي شيء، لأن المعيار الحقيقي للكتابة هو أهم ما ينجز في العالم، وخارج هذا يبدو الأمر كحفلة رقص في العتمة.
يقال إن كتاباتك السينمائية لا تخرج عن منطقة الإبداع، فهي أقرب إلى النص على النص. - بالتأكيد هي كذلك، فكتابتي عن السينما لا تهدف إلى أن أكون ناقدا سينمائيا. أكتب عن السينما لأتأمل هذا الفن الكبير، وأحاوره كشاعر وروائي وليس كناقد سينمائي، وأظن أن المعنى الوحيد لكتابتي هذه هي أنها تطرح رؤية كاتب في السينما، رغم أنه ليس من الصعب علي بعد هذه المعايشة الطويلة للسينما أن أكتب كناقد محترف. |
|
|||||||||||||