العدد 56 - اقليمي | ||||||||||||||
معن البياري المواد الوفيرة التي احتشدت بها، وما زالت، الصحافة والتلفزات العربية، ومعها مواقع إلكترونية عديدة، بشأن استهداف الصحفي العراقي منتظر الزيدي الرئيسَ الأميركي جورج بوش بحذائه في بغداد يوم 14 كانون الأول/ديسمبر الجاري، تُيسّر مناسبة لاستخدام منهج «تحليل المضمون» في دراسات علم الاجتماع وعلوم الميديا ومسوح الرأي العام. وهو يقوم أساسا على رصد كمّي محدد لعيّنات دالّة، مختارة بأسلوب علمي، تغطي ساحات وأمزجة ووسائل إعلام متنوعة، ثم القيام باستخلاص ظواهر واضحة أو مستترة فيها، بأسلوب تحليلي في وسع أساتذة كليات الإعلام إيضاح كيفيات اتباعه. التأشير هنا إلى هذا الأمر يأتي لحثّ مختصين من أهل البحث والدرس العلمي للمبادرة إلى إنجاز ذلك، لتتيسّر خُلاصات كاشفة، تضيء الأسباب الظاهرة والكامنة لما حظي به حدث رمي الحذاء على بوش من استقبال خاص، طبعه الابتهاج والسرور والغبطة لدى قطاع واسع من الجماهير والنخب العربية، فيما آثرت كتابات وتعليقات استنكار فعلة الزبيدي بوصفها لا تنتسب إلى الأخلاق الرفيعة، ولا تليق بصحفي مهنته المساجلة بالرأي والحقيقة. وانشغلت اجتهادات أخرى بما رأت في دوي الاستقبال الفرِح بما قام به الشاب العراقي دلالةَ تخلف وأزمة واضحَين في التفكير العربي العام، لما ظهر في الشارع العربي ونخب عديدة فيه، تشمل محامين وصحفيين وحقوقيين وغيرهم، من رهانٍ على الأحذية بدلا من إعمال العقول، ومن ترقية لمنتظر الزيدي إلى مرتبة الأبطال المجيدين في الدفاع عن الأمة العربية وكرامتها وشرفها، على ما تكرّر وتردّد في غير مدينة عربية. بالتدقيق، ولو العجول بعض الشيء، في التعبيرات العامة الاجتماعية الواسعة، أو النخبوية المثقفة، بشأن حادثة حذاء منتظر الزيدي التي لا شك أنها مثيرة ومبتكرة وطريفة، يجد المرء أن مقادير ليست هيّنة من الوجاهة تتوافر في الكيفيات المتباينة لاستقبال الحادثة. فالفرح المهول بها مسوغ ومبرر، بل طبيعي أيضا، بخاصة أن العرب ليسوا وحدهم من أبهجتهم الواقعة، فاللعبة الإلكترونية على موقع على شبكة الإنترنت، التي تقوم على محاولات إصابة بوش بحذاء، كان غير العرب والأجانب الغربيون هم الأكثر استخداما لها، وبالملايين. كما أن الرسوم الكاريكاتورية التي تسخر من الرئيس الأميركي وتستثير الضحك من استهدافه بفردتي حذاء، ونشرتها صحف عديدة في العالم، في الولايات المتحدة والمكسيك وبريطانيا وإيطاليا والبرازيل وغيرها، تعكس -بداهة- أن الشماتة في جورج بوش، في آخر أيامه في البيت الأبيض، ظاهرة عالمية بامتياز، وليست مقصورة على العرب، المأزومين بتخلفهم على ما أريد لنا أن نتذكّر في مقالات زملاء غير قليلة. بدا حدث توديع جورج بوش بالحذاء قبل انصرافه عن السلطة في بلاده، وفي بغداد تحديدا، ومن صحفي عراقي شيعي المذهب على ما زاد من بهجة كثيرين، بدا مرغوبا ومشتهى في الشارع العربي، ولا يحتاج المرء إلى الإسهاب في أسباب ذلك، فالممارسات شديدة الفظاظة وسوء وسخف إدارة هذا الرجل طوال ثماني سنوات، ضاعفت من مستويات الكره الواسع لدى العرب للسياسة الأميركية، وهو الذي وصف مرّة وعن قناعة أرييل شارون بأنه رجل سلام، واختار لتمثيل بلاده في الأمم المتحدة رجلا، هو جورج بولتون، يرى أن لا مدعاة لوجود المنظمة الدولية ما دامت أميركا موجودة، ويقترح لإصلاح الأمم المتحدة دخول إسرائيل عضواً دائماً في مجلس الأمن. وأن يكتب صحفيون في غير صحيفة أن اتساع البهجة في الشارع العربي بحذاء منتظر الزيدي، يدلّ على مرض في الشارع المذكور، ويعكس عجزا عربيا مزمنا، ففي ذلك اجتهاد وجيه، وإن لا فرادة ولا جدّة فيه، غير أنه من باب الموضوعية يلزم أن يقترن بالتأشير إلى الأهوال الأميركية في الحال العربي، والتي تعدّ من الأسباب التي جعلت هذه الحال على ما فيها من رداءة ظاهرة. أما أن يرى صحفي أن ما جرى دلّل على استبدالنا أحذيتنا بعقولنا، ففي ذلك شطط كبير، لأن اختناق البيئات السياسية والاجتماعية العربية الراهنة هو الذي لا ييّسر المساحات اللازمة لاستخدام عقولنا، ويجعل عديدين منا يرون في حذاء الزيدي ترميزا لجوع فينا لانتقامٍ من السلطات العربية المتحالفة مع الظالم الأميركي. تمضي الحال العربية إلى مزيد من التخلف إلى الوراء، بانتعاش العصبيات والتطرف فيها، وبتدنّي مستويات التعليم الحديث وتردّي الثقافة التعددية والديمقراطية في المجتمعات العربية. وتكاد فجوات التقدم بين بلاد عربية وأخرى أجنبية ومجاورة (إيران وتركيا لئلا نقول إسرائيل) تتسع باطراد، وفي العراق الذي ينتسب إليه منتظر الزيدي احتراب اجتماعي وطائفي وعفونة سياسية ظاهرة. لا يسحب الذئبَ من ذيله من يأتي على هذا، وعلى دلائل أخرى على سوء الحال العربية الراهنة، على صعد التنمية والتقدم في الاقتصادات الوطنية الإنتاجية وفي مخرجات التعليم الإبداعية في البحث والابتكار. لا يزيدُ في الطنبور نغماً من يوسِع المجتمعات والسلطات والأنظمة العربية شتما وتقريعا، بسبب من ذلك كله أو بعضه، غير أن الإمساك بالبهجة العربية المستمرة بحذاء منتظر الزيدي، والتشهير بها، بوصفها برهانا جديدا على التخلف العربي، ليس مسلكا وجيها، إذا ما تم عزله عن سياقات معقدة، منظورة وكامنة، بخاصة إذا ما تمت التعمية في الأثناء على مظاهر احتجاج غاضبة، مدنية نخبوية أو جماهيرية، في غير بلد عربي على التسلط والغلاء وعلى التقصير الرسمي أمام العدوانية الإسرائيلية. باختصار، هي لحظة رمزية، ربما خاطفة، تكشف عن مدى الحنق العربي الواسع من شناعة السياسات الأميركية، ليس إلا، ومناصرة منتظر الزيدي والمطالبة بضمان محاكمة عادلة له من دون عسف أو تعذيب أو تطاول على كرامته واجبة، وإن شاب الأمر أحيانا ليست قليلة تزيُّد في عدّ الشاب بطلا ثأر للكرامة العربية، المهدورة والجريحة طبعا، تماما كما التزيُّد في ذهاب صحفي كتب أن الذي يجري دليلٌ على استمرار خساراتنا، نحن العرب، منذ وقوفنا مع أدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية. |
|
|||||||||||||