العدد 56 - بورتريه
 

خالد أبو الخير

صور بيتها ومآذن وصلبان وقباب ما زالت زاد الرحلة، كأيقونة آسى وتذكار.

ولدت انتصار حمزة عباس في القدس الغربية مع اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى العام 1936.

تلقت علومها الأولى في مدرسة البقعة بالقدس الغربية، ودرست الصف السادس الابتدائي في المدرسة المركزية التي صار اسمها «المأمونية» في باب الساهرة، في مهب العام 1948. «استيقظنا على إطلاق نار كثيف قبل يوم 15 أيار/ مايو، ما دعا أرباب العائلات ومنهم والدي إلى إرسال النساء والأطفال إلى القدس الشرقية، حيث أقمنا عند أقارب لنا في باب الخليل».

تخلف ثلاثة من أشقائها وعدد كبير من الجيران الشبان، خاضوا بعنفوانهم تجربة القتال ضد عدو متفوق: تسليحاً وتدريباً.

في الخامس عشر من أيار 1948سقطت القدس الغربية، واعترى الأسرة قلق ممض على مصير أبنائها الثلاثة، فجازف الوالد بصحبة رجال من العائلة بالذهاب للبحث عنهم، متسللين عبر طريق خلفي، ووجدوهم بمعية الجيش العربي.

سافرت العائلة بعد الحرب إلى عمان، لكن انتصار فضلت البقاء في القدس بمعية شقيقها طالب ، الذي كان متزوجاً ومسؤولاً عن إدارة محل لهم في المدينة. «أحببت أن أكمل دراستي في مدرستي ومع صديقاتي».

أبرز صديقاتها في «المأمونية» اللواتي ما زالت ترتبط بهن بعلاقة: آسيا أبو الحاج، سهاد جار الله، خالصة الدجاني، نهلة كمال، وحياة غوشة.

أنهت المترك العام 1954 وخططت لإكمال دراستها في القاهرة، غير أنها حازت بعثة دراسية في الجامعة الأميركية في بيروت، فشدت الرحال إلى ست الدنيا..بيروت.

الفتاة السمراء الخارجة لتوها من غمار القضية الفلسطينية، متسلحة بالعلم، استهواها الحراك السياسي في بيروت، فانضمت الى «حركة القوميين العرب» التي زاملها فيها «المرحوم الشريف عبد الحميد شرف وليلى شرف».

عرفت جورج حبش عن قرب، عن طريق شقيقته سلوى، زميلتها في الجامعة ، «جورج إنسان خلوق، وطني، تميز بعفة اللسان واليد».

شاركت في العديد من النشاطات السياسية والتظاهرات، كما كانت من ضمن الطلاب الذين اعتصموا في «الويست هول» داخل حرم الجامعة ضد حلف بغداد. وفصلت الجامعة عدداً منهم.«تمنيت لو أني فصلت ، لأن جمال عبد الناصر أوعز بقبول الطلاب المفصولين فورا في الجامعات المصرية»!.

مناسبة أخرى تذكرها مع نائب رئيس الجامعة ومن ثم رئيسها قسطنطين زريق، إبان حرب السويس 1956، حين ألقت كلمة في حشود من الطلبة المعتصمين ضد العدوان الثلاثي، فجاء زريق ووقف بجانبها وقال: «بدنا إياكم تهدوا، لأنكم جايين هنا علشان تتعلموا، والعلم ضروري كما تعلمون» فردت عليه بعفوية: «العلم من الممكن أن نحصّله في أي وقت، ولكن الأوطان عندما تضيع من الصعب استرجاعها».

اشتعل الطلبة بالحماسة لدرجة أن عدداً منهم سافر الى حمص، لتلقي التدريب العسكري، وكان من ضمنهم «الشريف عبد الحميد شرف، ومحمد جردانة، طالب الهندسة الذي صار زوجها». فيما تلقت الطالبات تدريباً في الإسعافات الأولية.

حازت البكالوريوس في الآداب فضلاً عن دبلوم في التعليم العام 1958، وكان ممن زاملها أيام بيروت « طاهر كنعان، بسام العنبتاوي، طلال أبو غزالة، يحيى محمصاني، وعصام نعمان».

استقرت بعد تخرجها في عمان ، وعقدت خطوبتها في السنة التي عينت بها في مدرسة الملكة زين الشرف ، ولم تلبث أن نقلت إلى مادبا على خلفية اندلاع مشاكل ذات طابع سياسي بين الطالبات جراء تصادف عيد الشجرة مع عيد ميلاد جمال عبد الناصر، والاختلاف على الاحتفال بأي من العيدين. «لم يكن لي دور في تلك المشاكل، ولم أكن في المدرسة حينها، لكني لا أنكر أنه كان لي تأثير في الطالبات، فأنا قومية عربية في الصميم، وما زلت حتى الآن، رغم أنني لم أكن ضمن الحركة بشكل رسمي».

أحبت التعليم في مادبا التي وصفها هنري لامنس بأنها «شبه حارس ضائع على حدود الصحراء»، وقد احتضنتها معلمات مادبا وأحببنها، وما زالت علاقات تربطها بهن. «أهل مادبا رائعون، خلاقون، أخلاقهم عالية وأدبهم جم».

أعادتها الوزارة إلى عمان، للعمل في مدرسة سكينة، حيث أمضت خمس سنوات بالعمل في التعليم ، أعدت وقدمت خلالها برنامجاً للإذاعة الأردنية عن المرأة، حاز شهرة كبيرة في زمان الراديو، وتذكر أن منيف الرزاز كان من المعجبين به.

تزوجت العام 1959، ولها من الأولاد ثلاثة «بشر، وحلا، وعمر».

ازادات الضغوط العائلية عليها بعد أن كبرت عائلتها ما اضطرها أخيرا لتقديم استقالتها من سلك التعليم العام 1966، وانهمكت منذ ذلك التاريخ في العمل العام التطوعي وما زالت.

أسست مع جمهرة من السيدات «الجمعية الثقافية العربية» في نيسان 1967، وانتخبت أول رئيسة لها، ومن أهدافها إنشاء مدرسة وطنية، تختلف في رسالتها عن مدارس الحكومة والمدارس الأهلية ذات المرجعية الدينية «إسلامية ومسيحية»، « بسبب عملي في التدريس كنت أشعر بالحاجة لمدرسة تقوم بتنشئة جيل جديد يرتبط ويعتز بماضيه، ويعلي من شأن العلم، ويكون قادراً على القيام بواجبه تجاه قضايا أمته ووطنه».

وقوع حرب 1967 قلب سلم أولويات الجمعية، فانطلقت عضواتها للمساهمة في تضميد الجراح ومساعدة النازحين، بالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية ومديرية الأمن العام.

ذات مساء حزيراني حزين، عادت أدراجها متعبة من إحدى المستشفيات برفقة صديقتها هالة خورشيد ،التي قادت السيارة في شوارع عمان شبه الخالية من السيارات والمارة حتى البيت، وحين وصلت تلقت اتصالاً من مسؤول طبي، يخبرها بالحاجة الماسة لنوع من الخيوط يدعى «قط قط» يستخدم لخياطة جراح الجرحى، فاتصلت بنسيبها نزار جردانة الذي كان يمتلك مستودعاً للأدوية، فأرسل ما طلبته للمستشفى على الفور.

« الإذاعات ضللتنا، ولهذا كانت الهزيمة مكتملة كهم ثقيل وقع بغتة فوق رؤوسنا». تضيف بنبرة أسى.

انهمكت الجمعية في العمل التطوعي الوطني بضع سنين، إلى أن أمكنها بناء مدرسة الرائد العربي على قطعة أرض في الشميساني بمساعدة من جعفر الشامي، نقيب المهندسين والوزير الأسبق « جعفر الشامي من أكثر الرجال خلقاً ونزاهة ونظافة يد».

بدأت المدرسة بصفي روضة، ثم أخذت بالتوسع كلما أمكنها ذلك، وقد خرّجت إلى الآن عشرين فوجاً توجيهياً.

تخصص المدرسة جملة مقاعد للطلاب الفقراء.

أكثر ما يؤلمها، أن الجمعية أسست العام 1988 روضة نموذجية للأطفال في منطقة الوحدات على قطعة أرض متروكة كمكب للنفايات، وكانت نموذجاً في العمارة الفنية الإسلامية، جرفتها أمانة عمان فيما بعد لتوسعة شارع.

ترأست أم بشر الجمعية لثلاث دورات، وعملت أمينة سر لها، وهي الآن عضو فخري ورئيسة مجلس التعليم في الجمعية الذي يشرف على السياسات وتنفيذها.

«نعاني مأزقاً في التعليم، صحيح أن هناك تطوير في المناهج وبناء مدارس، لكن المعلم الذي هو حجر الزاوية في العملية التعليمية بات نادراً ، وكذا الحال بالنسبة للإداريين».

من بين جمهرة اللوحات التي تتعربش على جدران صالون منزلها، واحدة تمثل سيدة متشحة بثوب صلاة، تقف مترددة على أبواب مدينة بدت مقدسة.

انتصار جردانة: قومية في الصميم
 
25-Dec-2008
 
العدد 56