العدد 56 - بورتريه
 

محمود الريماوي

يثير الحلول المتزامن للأعياد الاسلامية والمسيحية، أبهج الذكريات والانطباعات عن التسامح والتوادد الذي يسود بلادنا ويطبع النسيج الاجتماعي فيه. ذلك أمر في غاية الأهمية، في زمن يتفشى فيه التعصب كالوباء، ويتم تصنيف الناس وفرزهم وفق هوياتهم الدينية والطائفية والعرقية. ولئن كان نالنا في الأردن قدر من التعصب الديني في العقدين الأخيرين، حملته رياح السموم عبر الحدود والفضاءات، ولقي بعض الاستجابة في بيئة محافظة، فالثابت أن إرساء بيئة سياسية واجتماعية وثقافية متفتحة، عبر قوانين متطورة، نابذة لكل تزمت وكل افتئات على حقوق الأفراد والجماعات، هي الضمانة النهائية والأكيدة لصدّ التعصب الديني والطائفي وكل تعصب آخر. فليس هناك تعصب جيد وآخر سيئ.

تجاوُر أعياد المسلمين والمسيحيين والتواصل الحي بينهم، وتحوّل هذه الأعياد إلى مناسبات وطنية، يمثل فرصة لإظهار الوجه المشرق في حياتنا. غير أن واقع الحال يشي بأن مظاهر الاحتفال بالأعياد تنحسر في الحواضر، باستثناء هوامشها والمناطق والتجمعات الفقيرة. فقد تغيرت أنماط الحياة دون أن تتغير المفاهيم.. فبينما كان الناس يحتفلون من قبل بالسهر مع الجيران، وتجهيز الأطعمة وتناولها، وارتداء الثياب الجديدة، وأداء الواجبات، فالحال أنه لم يبقَ سوى هذا النشاط الأخير، الذي لا يضفي وحده على العيد بهجته وتميزه.

مع ما تحمله الأعياد من معان نبيلة، من المؤلم حقاً أن هذه المعاني بدأت تنحسر في النفوس شيئاً فشيئاً، وأكثر فأكثر، تحت جملة من الضغوط السياسية والاقتصادية، وبفعل تحولات اجتماعية بعيدة الأثر.

الأوضاع السياسية في المنطقة تلقي بظلالها الثقيلة وتحدّ من فرحة الأعياد، ويغدو الوضع مثاراً لكدر عميق، مع غياب أفق لحلول عادلة وممكنة التحقيق. لا يتوقف الأمر عند ذلك، فالظروف المعيشية باتت أشد صعوبة على غالبية الناس من طبقة وسطى ومن معوزين، وانخفضت القدرة الشرائية للمواطن إلى درجة كبيرة، بموازاة موجة ارتفاع جنونية على الأسعار، وهذا أدى إلى محاولة كثيرين إعادة النظر في الموازنات المرصودة للأعياد. رغم ذلك يواصل مواطنون عاداتهم الاستهلاكية ويقعون طوعياً أسرى لحمّى الاستهلاك، بصرف النظر عن مواردهم وقدراتهم الفعلية، بما يفقدهم حس التمتع بما كانوا يتمتعون به من قبل، ويجعل النفوس زائغة في التماسها للمزيد الذي تعرفه وتجهله على حد سواء. وهو "مرض" انتقل بالعدوى من الكبار إلى الصغار.

عليه، ليس من المبالغة أن تحضر الأعياد في نفوس كثيرين، على أنها فرصة لنيل قسط من الراحة والتمتع بالإجازات، لا أكثر، حتى لو طغى الكسل والملل على هذه الإجازات. فبعد عطلة عيد الأضحى ها هي ثلاثة أيام عطل يتصل يومان منها بعطلتي الجمعة والسبت. فيما تلوح المناسبة لبعض التجار كفرصة لتنشيط تجارتهم والاستغراق في العمل، لكن واقع الحال يقول إن السوق أصبحت تشهد في أيام العيد كساداً، بخاصة في هذا العام الذي نودعه بعد أيام، ما يحول دون قدرة صغار التجار على تسديد التزاماتهم من إيجارات ورواتب عاملين لديهم.

للفقراء عيدهم أيضاً. هذا ما يرد على البال حين يتجول المرء في أسواق الملابس المستعملة (البالة)، فيما أصوات الباعة ترتفع عالياً: "إللي ما إلو باله ما إلو عيد". لكن هذه الأسواق أصبحت مقصداً لأغنياء أيضاً يجدون فيها ضالّتهم بأسعار في متناول اليد. وهو ما يؤكد أن تغيرات تنحو إلى الجذرية بدأت تسمُ نمط الإنفاق في الأعياد والمناسبات المختلفة. بل إن صناعة حلويات العيد في البيت بدأت تستعيد حضورها، في ظل عزوف عن ابتياع هذه الحلويات من المخابز، نظراً لكلفتها العالية.

في الوقت نفسه، يلاحَظ أن الهدوء النسبي لحركة النقل هو من الثمار الطيبة للأعياد، في مدن تشهد اختناقات مرورية وتوترات بشرية مثل عمّان وإربد والزرقاء. غير أن هذا الفراغ الذي تخلفه وسائل النقل وبالذات السيارات الخاصة في الشوارع، لا يجد ما يملأه من مظاهر البهجة الفردية والجماعية.

من المؤسف في هذا الخصوص، أن لا تبادر جماعات أهلية لتنظيم احتفالات بالأعياد تضفي رونقاً على شوارع المدن، وتكسر إيقاع حياتها الرتيب والضاغط، وتؤشر على أن هناك عيداً بالفعل وهناك من يحتفلون به. لا أن يقتصر الأمر على احتفالات مغلقة في أماكن مغلقة مثل الفنادق ينعم بها الموسرون دون سواهم وقلما تكون ذات مستوى فني راقٍ. غياب مبادرات المنظمات الأهلية، يتضافر مع عزوف البلديات عن المشاركة بهذه المناسبات، والتي تقتصر جهودها على وضع بعض الزينات الروتينية التي لا تتغير من عام إلى عام.

خطوة تستحق الثناء، تلك التي قامت بها الملكة رانيا العبد الله، تجسيداً للتعايش الديني بين الأردنيين. الملكة شاركت أهالي مدينة الفحيص احتفالهم بإضاءة شجرة عيد الميلاد المجيد الأطول في الأردن. الأهالي –مسيحيون ومسلمون- احتشدوا في منطقة الدوار الرئيسي لبلدة الفحيص للاحتفال بهذه المناسبة. الأطفال قدموا أيضاً فقرات مرح وتسلية احتفالية ضمن هذه المناسبة.

في بيروت بمناسبة العيد، تقوم فرق موسيقية بالعزف احتفالاً بالعيد في وسط العاصمة، وتحظى بالدعم من فاعليات مالية. في مدن عربية أخرى مثل تونس تتعهد البلديات، بإقامة حفلات غنائية وموسيقية في الحدائق العامة والمسرح البلدي، في أيام العطل العادية على مدار العام، لا في الأعياد فحسب. تغيبُ هذه المظاهر عندنا، حتى تأسس تراث وتقاليد لهذا الغياب الصلب. فلا محل لاحتفالات تحمل «شبهة» البهجة والاختلاط الاجتماعي، وكما هو دأب شعوب ومجتمعات أخرى بعضها مجاور لنا، تتمسك بحقها بالفرح والتعبير عنه في أجواء راقية.

غياب هذه المظاهر ونخبوية وعزلة بعضها، جعل الأجيال الجديدة لا تجد ملاذاً لها للاحتفال بالأعياد سوى في المقاهي والمطاعم والمولات. تنمو بذلك العادات الاستهلاكية والأعباء المالية والمتاعب الصحية، وتُحرم هذه الأجيال من تذوق متع فنية فولكلورية تنبثق من البيئة أو تعكس خبرات مجتمعات أخرى.. بينما يحتفظ الفقراء بفرصة الاحتفال بالعيد وإن كان مقتصراً على الأطفال دون الكبار (الذين يذكّرهم العيد بشقائهم)، وهؤلاء الصغار يحتاجون إلى حدائق عامة ووسائل تسلية وترفيه غير مكلفة، وضمان بيئة صحية سليمة خاصة للمأكولات والمشروبات التي يُقبل عليها الصغار، وقيام مبادرات طوعية بحملات نظافة وتزيين بمناسبة الأعياد.

في نهاية المطاف قد يفلح البعض في اجتلاب مظاهر احتفال هنا وهناك بالأعياد..لكن من يعيد المعنى المسلوب للعيد في نفوس الناس؟. ذاك هو السؤال.

فيصل الفايز: رئيس النوايا الحسنة
 
25-Dec-2008
 
العدد 56