العدد 56 - أردني
 

نهاد الجريري

«إللي ما إلو بالة ما إلو عيد»! عبارة يرددها كثيرون هذه الأيام، وبخاصة باعة الملابس المستعملة في شوارع الوحدات أو الطلياني أو في سوق اليمانية في وسط البلد. وربما تعود جذور هذه العبارة إلى البرنامج الكوميدي الشهير «الغلط وين» لدريد لحام وناجي جبر (أبو عنتر) الذي اشتهر في مطلع الثمانينيات.

لكنها تعني ما هو أكثر من ذلك بالنسبة لسميرة ذات الأربعين عاماً. فهي تذكر أنها سمعتها أول مرة من والدها وهو يحاول أن يضفي جواً من «الفكاهة» على عدم تمكنه من شراء «أواعي العيد» لها ولإخوتها، ولم تكن قد تجاوزت آنذاك العاشرة من عمرها، وهي أكبرهم.

تقول سميرة إنها وإخوتها في كل عيد، وبخاصة عيد الفطر، كانوا ينتحبون وهم يطالبون بملابس العيد، أسوة بأولاد الجيران الذين اشتروا أكثر من «لبسة» للعيد: اليوم الأول «لبسة» والثاني «لبسة» ثانية. أما أبوها فكان ينتظر حتى اليوم الأخير قبل العيد؛ «فكان يأخذنا معو ع السوق ع شان نشتري أواعي من البالة». وتذكر أنها ذهبت مرة إلى السوق حافية القدمين؛ «فلبّسني أبوي كيس بلاستيك وأنا بقيس كندرة من البالة».

في صباح العيد، كانت سميرة تبكي وأمها تسرح لها شعرها. تقول «لا أعرف لماذا كنت أبكي! لكن كان ينتابني شعور بأنني تعبت كثيراً حتى أصل إلى ذلك الصباح». عندها، لم تبد «أواعي البالة» قبيحة؛ وتقول: «كنا نفرح لأن ملابسنا كانت عمليا تختلف عن أي شيء كنا نلبسه في الأيام الأخرى».

وكم كانت فرحتها وإخوتها غامرة عندما كان يسعفهم الحظ بـ«شلن» أو «بريزة» من جد أو عم أو خال. «طيران، نركض على دكان أبو العبد «الله يرحم» ونشتري راس العبد (وهي شوكولاتة محشية بالمارشميلو)، وكان إخوتي يشترون «فرودة» بربع دينار، وكنا أحيانا نكتفي بالعلكة والمصاص». أما عن جولة الصباح: «كنا نحرص على أن نتجمع حتى «نلف» على دور الجيران: نعايدهم ونأخذ الملبس «بيض الحمام» وأحيانا كنا نكافأ بقطع من «النوغا»«، تضيف سميرة.

اليوم، تحرص سميرة كل عيد على أن تشتري الملابس الجديدة لبناتها الثلاث. وتقول «أحتاط من الغلاء فأبكر في شراء الملابس والهدايا للصغيرات؛ فرحتهن تطغى على ألمي كل مرة». وتضيف وهي تجلس إلى جانب والدها الذي ما زال ينتعل حذاء من البالة، «لا زلت أبكي صباح كل يوم عيد؛ لكني هذه المرة أبكي وأنا أسمع ضحكات بناتي، بينما أبي يثني على جمالهن وهن يرتدين الملابس الجديدة».

في حارة ليست بعيدة عن حارة سميرة، لم تعد أم عدي تملك من المال ما يمكنها من شراء «العيدية» لأطفالها الستة، ولا حتى من البالة. «العيد كان قاسيا هذا العام»، تقول أم عدي التي اعتادت أن تمضي الأعياد وحدها مع الأولاد، إذ يعمل زوجها سائقا في شركة تسيّر رحلات للعمرة والحج. وهي تشرح أن الباص الذي يعمل عليه زوجها تعطل هذا العام، فتقلص راتبه الذي كان يعتمد في جله على الإكراميات. أما الراتب الأساسي فبالكاد يكفي لتسديد فواتير الكهرباء والماء، ومتطلبات علاج ثلاثة أبناء يعانون من تخلف عقلي.

تروي أم عدي إنها اعتادت كل عيد أن يصلها مبلغ من المال من سيدة محسنة لا يتجاوز 50 دينارا. «أنزل ع الوحدات وأشتري من البسطات بلايز وبناطيل للأولاد: بدينار، دينار ونص؛ ويمضي العيد»؛ وهي تحتفظ بالملابس في حالة جيدة حتى العيد التالي، وهكذا. لكن العيد هذا العام لم يأتها حتى بذلك القليل من الخير؛ تقول إن الغلاء ربما منع الناس عنها، فباعت هاتفها النقال. لكن بدلا من أن تستثمر المال في شراء عيدية الأولاد، اضطرت لعلاج 3 من أبنائها أصيبوا فجأة بأمراض مختلفة.

وتغص أم عدي بالدموع وهي تتذكر كيف أن ابنها الصغير، محمد، كان يدعو عليها يوم العيد: «يا ريتك تموتي»، ظنا منه أنها منعت عنه الملابس الجديدة والهدايا والألعاب وهو، من الشباك، ينظر إلى «أولاد الحارة» وقد لبسوا الجديد من الثياب، واشتروا ما يشتهون من الحلوى التي قد تُحظر عليهم في غير أيام العيد.

أبو صلاح يقيس فرحته بالعيد بمقدار فرحة أبنائه. يقول «العيد لنا، نحن الكبار، لم يعد أكثر من واجب ديني أو عائلي، أو حتى فرصة للراحة من العمل». لذلك فهو يحرص على أن ينجز واجباته العائلية في اليوم الأول من العيد حتى يتفرغ للأولاد فيأخذهم إلى المتنزهات أو الملاهي أو لركب «المراجيح» التي صارت تنتشر في المساحات الخلاء المجاورة لمنزله.

لكن أبو عمر يشكو من ارتفاع الأسعار حتى عند الحديث عن هذه المتع البسيطة. يقول: «المراجيح وحدها بدها ميزانية»! لذلك يستعيض أبو عمر عن الملاهي بأن يأخذ الأولاد في مشوار «أياً كان»؛ يشتري لهم بعض المرطبات أو الحلوى. «فيكونون قد أمضوا يوما خارج البيت، وهذا هو المطلوب»، يضيف أبو عمر.

ضيق الحال لم يؤثر فقط على «عيدية» الأطفال، وإنما امتد إلى ما يُعرف بـ«عيدية الولايا». يقول أبو سامر إنه اعتاد في أعياد سابقة أن يزور بناته المتزوجات وشقيقاته وبناتهن وعماته وخالاته ويقدم لهن عيدية تراوح بين 5 و 10 دنانير. أما اليوم، فأصبحت العيدية تقتصر على الشقيقات والبنات بمقدار لا يتجاوز 5 دنانير للواحدة.

الفرحة بالعيد باتت تُقاس بمقدار ما يفرح الأطفال. وما أن يُذكر العيد حتى يستذكر الواحد منا عيده في صباه. أبو جميل، ابن الناصرة، ما زال يذكر كيف أن الاستعداد لعيد الميلاد المجيد كان يبدأ قبل أسابيع من الخامس والعشرين من كانون الأول. يقول إن الأطفال في قريته طرعان (بين الناصرة وطبريا) كانوا وأهاليهم ينطلقون مطلع كانون الأول/ديسمبر باتجاه الأحراج لاختيار أفضل شجرة للعيد. ويزيد: «كانت العائلة كلها تجتمع على تزيين الشجرة؛ لم يكن لدينا كهرباء آنذاك، فكنا نزينها بالطابات الملونة: الحمراء والخضراء، ونعلق عليها حبات التمر والقطين (التين المجفف)». ويتابع أبو جميل أن سانتا كلوز أو بابا نويل لم يكن آنذاك قد وصل إلى القرى، فكان الأهل يحرصون على وضع هدايا العيد من ملابس جديدة وألعاب تحت وسادة الطفل أو فراشه. «ما إن نستيقظ صباح العيد حتى يخبرنا أهلونا بأن نذهب لنستعد للعيد». وبفرح ما يزال بادياًً على أبي جميل البالغ من العمر سبعين عاما أو أزيد، كان يجد تحت فراشه الحذاء البني والبنطال والجاكيت. «كنت أشعر بأنني رجل صغير وأنا أتبختر بالملابس الجديدة، وبخاصة إذا كانت معها ربطة عنق». ويروي أن الفتيات الصغيرات كن يشعرن أنهن «صبايا» بفساتينهن الجديدة وشعرهن المسرّح.

لكن العيد لم يكن بهيجا بكل تفاصيله بالنسبة لأبي وجدي، الذي يذكر أنه وإخوته الثمانية لم يتوافر لهم المال لشراء هدايا العيد أو شجرة الميلاد. ويقول «كنا نقطع أغصان الأشجار ونضع شجرة الميلاد الخاصة بنا في البيت، وكنا نصنع شكلا يشبه مغارة المسيح ونضع فيه ما يتوافر لدينا من تماثيل للمسيح والحكماء الأربعة وستنا مريم العذراء». أما عن بابا نويل، فيذكر أبو وجدي أنه كان يستغرب كلما زار أقارب له ميسوري الحال من وجود بابا نويل هناك يوزع الهدايا على الأطفال الزائرين، وكان يتساءل «ليش سانتا بييجي عندهم وما بييجي عنا»؟

الأطفال الأكثر شعوراً بالحرمان أعياد الفقراء: الغلاء يأكل الروح والبالة هي الملاذ
 
25-Dec-2008
 
العدد 56