العدد 55 - ثقافي | ||||||||||||||
عواد علي في 20 تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، حلت الذكرى الستون لميلاد الروائي الجزائري الراحل رشيد ميموني، الذي ظلّ معارضا يسارياً شرساً ضد نظام الثمانينيات والأصوليين في آن واحد، فقُمع وهُدّد، ووصل الأمر إلى حدّ تعليق الإرهابيّين لصوره على الجدران العمومية بداية التسعينيات بصيغة «مطلوب رأسه»، في تهديد علني بالقتل، فاضطر إلى مغادرة الجزائر إلى المغرب ليلتحق بزوجته وأطفاله الذين سبقوه. وقد أحزنه خروجه من الجزائر كثيراً، وشلّ قلمه عن الكتابة حتى لحظة وفاته في 12 شباط/ فبراير 1995 بمستشفى باريسي إثر إصابته بمرض عضال، تاركاً ثماني روايات باللغة الفرنسية هي: الربيع لن يكون إلا أجمل 1978، سلام للعيش 1983، طومبيزا 1984، النهر المحول 1986، شرف القبيلة 1989، حزام السفلة 1990، اللعنة 1990، وحزن للعيش 1993. عاش ميموني بعيداً عن بلده، وغريباً حين أقام فيه، لكن الرسميين وفي موقف أشبه بالاعتذار اعترفوا بخطئهم، بعد 11 عاماًً، وأعادوا الاعتبار اليه من خلال تظاهرة ثقافية حملت اسمه أقامتها وزارة الثقافة الجزائرية بمدينة «بومرداس» الساحلية العام 2006، كما أطلقت جائزة أدبية للشباب لإحياء ذكراه. ومن محاسن الصدف أن شاركت الجزائر في مهرجان المسرح الأردني الرابع عشر (14 - 27 نوفمبر 2007) بعرض مسرحي مقتبس عن روايته الأكثر شهرة «النهر المحول»، التي تشبه تفاصيلها حياته، بالعنوان نفسه في ذكرى ميلاده. اقتبس نص العرض عمر فطموش، عن الترجمة العربية التي قام بها عبد الحميد بورايو، والصادرة عن «دار الحكمة»، وأخرجته حميدة آيت الحاج. يروي العرض، كما الرواية، قصة مقاوم جزائري يدعى "محند العربي"، يصاب في معركة مع الاحتلال الفرنسي فيفقد وعيه، وبعد سنوات طويلة يستعيد وعيه ويقرر العودة إلى بلدته حيث يعيش أهله (والداه وزوجته وابنه) ليجد عالماً مختلفاً لا يعرف تفاصيله، فيسأل أول شخص يقابله في البلدة عن بعض معالمها العمرانية (المستشفى، الجامعة، دائرة البريد الاتصالات... إلخ) مثل أي غريب تطأ قدماه عالماً جديداًً، وتقوده خطواته إلى ثلاثة أنصاب من الرخام نُقشت عليها أسماء شهداء المقاومة، فيطلب من الشخص ذاته أن يقرأ له الأسماء المنقوشة، ويفاجأ بأن اسمه مدرج معها. من هنا تبدأ رحلة صراعه ومعاناته، وهو يحاول إقناع الجميع بأنه محند العربي، ويسعى إلى استرجاع هويتّه ولقاء أهله، لكن كل سلطات البلدة تهدده و تنصحه بالرجوع من حيث جاء، أي العودة إلى عالم النسيان كي لا يؤثر على امتيازاتها ومصالحها التي نالتها من جراء استشهاده. هكذا يتأجج الصراع بينه وبين تلك السلطات من بداية العرض حتى نهايته. ترتبط رواية "النهر المحول"، وكذلك النص المسرحي المقتبس عنها، بعلاقة تناصية مع مسرحية "أنت لست غارا" للكاتب التركي عزيز نسين، ولكن بصيغة معارضة تماماً، فها هنا يقدم لنا النص بطلاً زائفاً تكرِّمه السلطة السياسية الفاسدة الحاكمة في بلده على اساس أنه أدى أعمالاً بطوليةً خارقة في الحرب، وضحَّى بحياته من أجل وطنه، في حين أنه في الحقيقة إنسان يائس وجبان حاول الانتحار مرات عدة، وقام بأعمال مخزية. تبدأ المسرحية بحفل إزاحة الستار عن النصب التذكاري للبطل القومي "غارا"، الذي استشهد في الحرب بعد استبساله في معارك عديدة، ويتسابق على تمجيده والإشادة ببطولاته كل من رئيس جهاز الأمن السري، وعمدة المدينة. وبينما هما على هذه الحال يدخل شخص إلى عمق المسرح ويبول على النصب، فيطير صوابهما من هذا التصرف، ثم يكتشفان أن هذا الوافد الجديد هو "غارا" نفسه، ويبدآن بالتحقيق معه وعن أعماله البطولية، وبما أن "غارا» عائد إلى مدينته بعد غياب دام عدة سنين ليرى أمه وشجرة السنديان التي تحمل ذكريات طفولته، يقدم لهما كل المعلومات عن نفسه، فإذا به ليس بطلاً، وماروي عنه من مواقف ليست إلاّ أوهاماً ومغالطات. فمثلاً عندما حمل الرقيب الجريح بعيداً عن ساحة المعركة ليسرق الأموال التي في جيوبه ظنوا أنه يحاول إنقاذه، رغم شراسة المعركة، فأعطوه وساماً! وعندما فتش جيوب أحد الجنود القتلى ولم يجد معه شيئاً انتزع سنيه الذهبيين! لكنهم ظنوا أيضاً أنه يحاول أن ينقذ جريحاً فمنحوه وساماً ثانياً! هكذا راح يحصد العديد من الأوسمة على ما اقترف من نذالات، وبسبب خسته كان يقتنص الفرص ليجالس جنود العدو، ويلعب القمار معهم على أوسمته. بهذه الاعترافات الصادمة، والمثيرة للسخرية يفضح «غارا» تسلق رئيس جهاز الأمن السري، وعمدة المدينة إلى منصبيهما اعتماداً على خدعة البطل القومي، ولذلك يحاولان منعه من دخول المدينة، ويرشيانه بمبلغ قليل من المال وعلبة سجائر لحمله على العودة من حيث أتى، وحين يرفض يهددانه بالقتل فيخضع لهما ويغادر، لكن "غارا" يعود فجأةً ويرمي النقود في وجهيهما، ويصر على دخول المدينة لرؤية أهله. إذا ما عرفنا أن عزيز نسين نشر هذه المسرحية، ثم صدرت ترجمة فرنسية لها، قبل بضع سنين من ظهور رواية "النهر المحول"، فمما لا شك فيه أن رشيد ميموني قد قرأها وتأثر بها، لكنه كتب روايته بصيغة معارضة تماماً لمسرحية نسين،، أي انه تعامل معها تعاملاً حركياً تحويلياً لا ينفي الأصل بل يسهم في استمراره جوهراً قابلاً للتجديد. |
|
|||||||||||||