العدد 56 - حتى باب الدار
 

رغم عشرات العقود من الزمن التي مرت على نشوء الصحف في بلادنا، إلا أنها لم تتوطد كخدمة أو سلعة في ثقافة الفرد والجماعة.

هناك مثلاً سلع أخرى مشهورة مثل القمصان والبناطيل والجوارب، وهي جميعها منتجات أو سلع أحدث عهداً من الصحف في بلادنا، إلا أنها بعد زمن معين احتلت حيزاً محدداً واضحاً في ثقافة الناس، وصار هناك قميص صيفي وآخر شتوي وثالث ملوّن ورابع «سادة» إلى جانب البنطلون «المفَضْفَضْ» أو «المكسّم»، أو زميله البنطلون ذي «الخصر الساحل» فوق جوارب حريرية أو قطنية أو ساق طويل أو قصير... وهكذا.

بالمقابل فإن الصحيفة لم تحرز مكانها الخاص، ولولا التزام المؤسسات ومواقع العمل بشراء الصحف، لأصبح الاطلاع عليها وبخاصة على اليومية منها يتم أسبوعياً أو مرتين في الأسبوع.

يلاحظ على سبيل المثال، أن صحف يوم الجمعة تبدو ضعيفة ومحدودة الصفحات، بل إن العناية بإخراجها تكون أقل، وقد التحقت صحف يوم السبت بهذه المواصفات الى حد كبير، بعد أن أقرت عطلة السبت في كثير من المؤسسات، وربما لو كان التعطيل يوم السبت شاملاً، لأصبحت صحف ذلك اليوم كاملة المواصفات الخاصة بيوم الجمعة.

يسأل المواطن أخاه المواطن الذي فرغ لتوه من مطالعة الصحيفة: ماذا في صحف اليوم؟ فيجيب: «لا شيء يفش الغل».

علينا الاتفاق أولاً على أن هذا المواطن «مغلول»، وأنه يبحث عما «يفش غله». لكن هل ما «يفش غل» القارئ هو نفسه ما «يفش غل» الصحافة؟.

من أول متطلبات المهنة بحسب الخبرة العالمية في هذا المجال، أن يجري التمييز، على سبيل المثال، بين الخبر والتعليق أو بين المعلومة والموقف منها. لكن هذا الأمر يشترط أن يتمتع القارئ /المواطن بحقه في توظيف هذه المعلومة، في عملية اتخاذ قراره ومشاركته الجماعية مع الآخرين من خلال الأطر المتعددة، التي يفترض أنه منخرط فيها مثل النقابات والهيئات والأحزاب، أو على الأقل، عند موعد الانتخابات النيابية أو المحلية، وهذه بمجملها تشكل مجالات لتوظيف المعلومات في عملية شاملة لتشكيل المواقف.

في ظل عدم توافر حضور جدي لهذه الأطر، يرضى المواطن/القارئ بالموقف السلبي، إلا أنه في هذه الحالة يبحث إلى جانب المعلومة عن «دليل» لتشكيل موقف أو انطباع. بكلمات أخرى، هو يحتاج إلى تعليق «يفش غله»، فإذا قرأ، على سبيل، المثال خبراً عن أن الحكومة رفعت سعر سلعة ما، فإنه يود لو يتم إرفاق الخبر بإدانة الحكومة ومهاجمتها كي تكتمل عملية «فش الغل»، ولذلك يقول قارىء: «لا يفش غلي غير فلان من الكتاب».

ما يريده الناس من الصحافة يرتبط بالسوية الثقافية للفرد والجماعة، وبموقع ومكانة الصحافة في ثقافة المجتمع ككل، وربما يكون المطلوب هو البحث عن مواصفات خاصة للصحافة في بلادنا، غير تلك التي توصلت اليها خبرة المجتمعات التي أنتجت الصحف أصلاً، باعتبار أنه من غير المنطقي أن يجري الدفع بالمجتمع إلى «الارتفاع» إلى المستوى الذي يتناسب مع صحافة متقدمة بحسب مواصفات التقدم المتعارف عليها، وذلك حتى لا يستمر الفصام بين ما يريده «أهل الكار» في الصحافة، وبين ما يريده الناس ويحتمله المجتمع منها.

“فش الغل” صحفياً
 
25-Dec-2008
 
العدد 56