العدد 55 - أردني
 

حسين أبو رمّان

من قلاع للحكم المحلي، تحولت البلديات عبر نصف القرن الأخير إلى وسيط خدماتي، أقرب إلى دوائر حكومية ملحقة بوزارات الشؤون البلدية والداخلية.

فالبلديات مكون تاريخي أساسي للحكم المحلي في الأردن، وقد نشأت ست بلديات منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى قيام إمارة شرق الأردن في العام 1921، أقدمها بلدية إربد التي أنشئت العام 1881. تلتها بلدية السلط في العام 1887، ثم بلدية الكرك في العام 1893، فعمان في العام 1909.

وفي سياق التجربة التاريخية، اضطلعت البلديات بتقديم سائر الخدمات للمواطنين من صحة وتعليم ومياه وكهرباء، وحتى الدفاع المدني كانت مرجعيته المباشرة قبل عقود عدة هي المجلس البلدي.

توسع الإدارة المركزية، وتطور قدراتها، وأداؤها الخدمات مباشرة للمواطنين دون المرور عبر البلديات، جاء على حساب اللامركزية الإدارية، ما أدى عملياً إلى حرمان البلديات من مراكمة الخبرة في مجال تقديم الخدمات، وإلى إفقارها وإعاقة تطوير مواردها (كوادرها) البشرية.

تعاني البلديات، بشكل عام، من ارتفاع مديونيتها، ويعود ذلك إلى أسباب أهمها ارتفاع نسبة الأجور والرواتب من إجمالي إيراداتها، وكثيراً ما تتجاوز هذه النسبة النصف حتى في بلديات كبيرة كالزرقاء، وتلتهم أحياناً كل الإيرادات. يؤشر هذا إلى أنماط من الخلل في مقدمتها ضعف تحصيل الضرائب والرسوم المستحقة على المواطنين.

أظهرت دراسة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، بعنوان «البلديات..ضعف الاستراتيجية وهيمنة المرحلية» ونشرت العام 2004، أن المبالغ التي لم تقم البلديات بتحصيلها تقدر بما نسبته 43 بالمئة من إجمالي مديونية البلديات.

إلى ذلك، تتتخبط سياسة الإنفاق للعديد من البلديات في الفوضى، وإلى أنماط من التساهل والاسترضاء، ما يحول البلدية من مؤسسة تؤدي خدمة، إلى مؤسسة تستهلك مواردها في توظيف «المحاسيب» لأغراض انتخابية.

الانتقادات التي توجه لأداء بعض البلديات، يتعين أن لا تستخدم للاستهانة بحاجة البلديات إلى حلول شافية لمعضلاتها. فمجالسها لا تتحمل وحدها المسؤولبة عن المشاكل التي تعانيها ، فهناك مسؤولية تتحملها حكومات متعاقبة أوصلت البلديات إلى ما هي فيه من حالة انعدام الوزن، ومن فقر.

لقد حولت الإدارة المركزية المتشددة والسياسات الحكومية المنبثقة عنها، المجالس البلدية من جهة منتخبة ومسؤولة تجاه مواطنيها ،إلى وسيط بين المواطن وبين وزارات الشؤون البلدية والداخلية.ما أفقد البلديات روح المبادرة، وأضغف في النتيجة صفتها التمثيلية.

تعرضت البلديات إلى عملية دمج متنامية تبدت أهم خطواتها في الأعوام 1996- 1999، حيث تم ضم 354 مجلساً قروياً إلى 271 مجلساً بلدياً، فأصبح العدد الجديد للبلديات هو 325 مجلساً بلدياً. تمت هذه العملية بدون ردود فعل سلبية ذات شأن. أما المحطة الحاسمة في عملية الدمج فقد تمت في العام 2002، مع ضم عشرات البلديات الصغيرة إلى بلديات مجاورة، فتقلص عدد البلديات الإجمالي عشية انتخابات 2003 إلى 99 بلدية.

هذه العملية التي ترافقت مع سياسة التعيين لرؤساء البلديات ونصف عدد أعضاء المجالس البلدية، ما أثارت قلقاً كبيراً لدى الجمهور، سواء بالاعتراض على سياسة التعيين، أو للخشية من تراجع سوية الخدمة التي سيتلقونها بعد الدمج.

على أن أهم إنجاز حققته عملية الدمج، هو التخلص من الوحدات المحلية الصغيرة الحجم لصالح وحدات أكبر، ومناسبة بدرجة أكبر للتناغم مع اقتصاديات الحجم الكبير وتطوير القدرات المؤسسية للبلديات.

لكن ينبغي الحذر من التمادي في التوسيع الجغرافي للبلديات على طريقة أمانة عمان الكبرى، بعد أن تم ضم ست من بلديات محافظة العاصمة إلى الأمانة في العام الماضي، لأن ذلك يقود بعد سنوات قليلة إلى تحويل محافظة العاصمة إلى مدينة واحدة. والمدن كلما كبرت وتضخمت، تتعقد أمورها، وتفقد قدراً من طابعها «الإنساني».

من حق كل جمهور بلديات المملكة تلقي الخدمة نفسها التي يتلقاها المواطن في عمان، وهذا ممكن التحقيق إذا تم اعتماد بديل لإغراء التوسع الجغرافي المفتوح، يقوم على تطوير البلديات وتعميم التجارب الناجحة.

إن الرؤية الاستراتيجية لحل مشكلة البلديات، تكمن في تمكينها من النهوض بدورها التنموي، الذي يجد في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين بعض مظاهره، على أن أداء هذه الخدمات يتطلب الاستناد الى رؤية متكاملة في إطار الاحتياجات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للمواطنين.

يوفر الحل الاستراتيجي لمشاكل البلديات في الوقت نفسه، حلاً لمشاكل وطنية عامة، لكن مدخل الحل هو عبر البلدية نفسها، وهو ينطبق على سبيل المثال على قضية النقل العام. فالبلدية ينبغي أن تتحمل مسؤولية أساسية في المساعدة على توفير نقل عام آمن، منتظم، نظيف، شامل وبأسعار معقولة، بالتعاون مع المستثمرين. ولعل تكليف أمانة عمان الكبرى في تحمل مسؤولية النقل العام ضمن حدود الأمانة، خير دليل على أهمية هذا التوجه المؤهل لتقديم حلول عملية لموضوع ترشيد استهلاك الطاقة.

يقدم المشروع الذي موله الاتحاد الأوروبي للسنوات الثلاث الماضية لمكافحة الفقر والبطالة، في ما يزيد على عشرين بلدية بالتعاون مع وزارة الشؤون البلدية نموذجاً يمكن الاستفادة منه في تعميم الدروس المستفادة من المشاريع الريادية المقامة، والتي تنفذ ضمن منظور تنموي وتشاركي، لا سيما أن الفرص متاحة لمواصلة الاتحاد الأوروبي دعم هذا المشروع للسنوات المقبلة.

وفي المحصلة، فإن الارتقاء بالدور التنموي للبلديات، بقتضي توافر عوامل، من بينها تعزيز استقلالية البلديات ضمن رؤية تميل إلى اللامركزية الإدارية، إعادة الاعتبار تدريجياً إلى دور البلديات في تقديم الخدمات للمواطنين، إصدار التشريعات اللازمة لتمكين البلديات من ممارسة صلاحيات أوسع بما يخص تشجيع الاستثمار على أراضيها، مع توفير إطار ديمقراطي ناظم لعمل البلديات وانتخاباتها.

إن الواقع الراهن لعلاقة البلديات مع الحكومة والوزارات ذات العلاقة هي علاقة استلاب للدور والصلاحيات، لا تؤسس للنهوض بدور البلديات، كما أن الانتخابات على النحو الذي أجريت فيه في 31 تموز/يوليو من العام الماضي هي وصفة تدميرية للحكم المحلي.

المواطن الذي يتاح له انتخاب مجلسه بكل نزاهة وديمقراطية، مؤهل لأن يكون رقيباً حقيقياً على عمل مجلسه البلدي المستقل. فالعلاقة الصحيحة بين المواطنين وبين المجلس البلدي القائمة على أساس ديمقراطي هي الضمانة بتحول البلديات إلى حكم محلي حقيقي، يخفف الأعباء عن كاهل الدولة المركزية، ويثبّت الناس على أرضهم نقيضاً للنزيف الدائم من الريف إلى المدينة، ومن اضطرار الدولة لسحب المياه لسقاية المواطن الذي جذبته أضواء العاصمة ومراكز المحافظات، بدل أن يقيم الناس على مقربة من مصادر المياه.

نشأ بعضها قبل نشوء الإمارة: البلديات من قلاع للحكم المحلي إلى وسيط خدماتي بلا صلاحيات
 
14-Dec-2008
 
العدد 55