العدد 55 - أردني | ||||||||||||||
نهاد الجريري لم تتردد عضوة مجلس بلدية غرب إربد مها المراشدة في الإجابة عن سؤال حول استقلالية البلديات بالقول بأن ليس ثمة استقلالية لعمل البلديات، هي التي لم يمض عليها في المجلس أكثر من سنة وأربعة أشهر، «أفاجأ من رفض وزارة الشؤون البلدية لقرارات إدارية نتخذها في المجلس، حتى إننا نواجه ضغوطاً بخصوص قرارات التعيين، فيفرض علينا أمين عام وزارة ما تعيين مهندس في البلدية رغم إرادتنا». ويشكو رئيس بلدية الكرك، أحمد الضمور من تدخل الوزارة في قرارات بسيطة مثل قيام البلدية بالتبرع لمدرسة ما بمبلغ 100 دينار لا غير، أو في تعيين عامل نظافة «هذه قرارات لا تكون نافذة إلا بموافقة الوزير»، يضيف الضمور. حقيقة تدخل الوزير في «كل شاردة وواردة» من عمل البلدية بدا صارخاً في تصريح لافت لوزير البلديات الأسبق، عبد الرزاق طبيشات في 30/7/2001، قال فيه لصحيفة العرب اليوم إنه «كان يحظر على البلديات شراء عود كبريت إلا بموافقة الوزير». وتخلص دراسة أصدرها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية العام 2004، إلى أن الحكومات المتعاقبة «لم تكتف بتجريد البلديات من صلاحياتها التي أقرها لها القانون، بل عمدت أيضاً إلى إخضاعها، وبما يتعارض مع القانون الذي ينظر إليها بوصفها هيئات مستقلة، لهيمنة مزدوجة من جانب وزارة الداخلية، ووزارة الشؤون البلدية، الأمر الذي أدى إلى نوع من التهميش التدريجي للحكم المحلي في الأردن». ولا أدل على إجراءات الحكومة في هذا الاتجاه، ذلك الجدل الذي دار أثناء مداولات مجلس الأمة لقانون البلديات الحالي، فيما يتعلق بمنصب «مدير البلدية»، فقد أرادت الحكومة أن يأتي «تعيين» مدير البلدية من رئاسة الوزراء مباشرة بحيث يكون «رئيساً» للجهاز التنفيذي في البلدية، وفي هذا إشارة إلى سعي الحكومة إلى إحكام قبضتها على البلدية حتى في ظل انتخاب رئيس وأعضاء المجلس البلدي. القانون بصيغته النهائية يقر تعيين مدير البلدية بقرار من الوزير، ولكن بتنسيب من المجلس البلدي نفسه، ويعتبره «مديراً» للجهاز التنفيذي، بينما يحتفظ الرئيس «برئاسة» هذا الجهاز. وبالعودة إلى بدايات قانون البلديات، نجد أنه بصيغته التي أقرت في العام 1955، نص صراحة على أن البلدية «مؤسسة أهلية ذات استقلال مالي». وتعليقا على ذلك، جاء في «تقرير عن إدارة البلديات والمجالس القروية في المملكة الأردنية الهاشمية» أعده عبد الله الزعبي وعبدالله الصعوب ضمن فعاليات المؤتمر العربي الثالث للإدارة المحلية العام 1975، أن البلديات تتمتع «بقسط وافر من الحرية لإدارة شؤونها واتخاذ القرارات اللازمة للقيام بمهامها، حيث حدد المشرع الأحوال التي تخضع فيها قراراتها للتصديق من الحكومة المركزية، وبذلك تعتبر هذه الرقابة استثنائية وتختلف عن رقابة الحكومة على أعمال موظفيها التي تعتبر رقابة شاملة». لكن مرة أخرى، وفي العام 1968، قامت الحكومة بتعديله بإضافة الفقرة «ز» إلى المادة 41 من القانون لتقضي بما يلي: «بصرف النظر عما ورد في هذا القانون، يجوز لمجلس الوزراء إصدار أنظمة مباشرة في أي موضوع من أجل تنفيذ أحكامه، وتعتبر جميع الأنظمة الصادرة من قبل مجلس الوزراء مباشرة صحيحة وكأنها صادرة بمقتضى هذا القانون». وربما كان هنا مكمن الخلل في تحديد العلاقة بين البلدية كمؤسسة حكم محلي وبين السلطة المركزية ممثلة بوزارة الشؤون البلدية. اختلال هذه المعادلة يجتزئ من استقلالية البلدية بما يضمن قيامها بمهامها على الوجه الصحيح. رئيس بلدية سابق فضل عدم ذكر اسمه، يعتبر أن هذه الأنظمة هي التي «تقيّد» عمل البلديات؛ إذ إنها تعزز ضرورة الحصول على موافقة الوزير قبل إنفاذ أي قرار لمجلس البلدية حتى مع عدم اشتراط هذه الموافقة بموجب القانون. ويدلل على ذلك بأنظمة العطاءات والأشغال والأبنية، واللوازم، ونظام رؤساء البلديات الذي يقول عنه إنه «لا داعي له»، إذ إن رئيس البلدية شخص منتخب من الشعب «فيجب ألا يعامل كموظف». غير أن المشكلة لا تتوقف عند اشتراط قبول الوزير أو رفضه لقرار المجلس البلدي، بل يتعدى ذلك إلى أن الوزير «يتدخل» في صميم تلك القرارات. ويورد على ذلك مثلاً بأن موازنة البلدية، في كثير من الأحيان، تخضع لأكثر من مجرد إقرارها من الوزير، سلباً أو إيجاباً، «فمن الوزراء من يتدخل في بنود الميزانية، بحيث يطالب بزيادة المبالغ هنا وإنقاصها هناك»، وفي هذا تجاوز لصلاحياته. وثمة حالات أخرى، كأن تتقدم بلدية ما بعطاء بهدف الحصول على موافقة، فيتجاوز «مهندسو» الوزارة في صلاحياتهم بإعادة دراسة العطاء «من أول وجديد»، وكأن البلدية وفريقها لم يأتوا بشيء. ويورد مثالاً على ذلك أن الوزارة أصرت في إحدى المرات على رفض عطاء للبلدية بحجة أن طريقة إعداده كانت خطأ. وذلك بالرغم من أن لجنة العطاءات المركزية أقرت بسلامة عمل البلدية، إلا أن «المهندس المسؤول في الوزارة ترك العطاء» مرمياً «3 أشهر» حتى «مات» المشروع وارتفعت الأسعار وصار لا بد من «حسبة» جديدة. في هذا الإطار، يلحظ نبيل الكوفحي، الرئيس السابق لبلدية إربد الكبرى أن كادر بلدية مثل بلديته كان يضم كفاءات فنية ومحاسبية وإدارية «أفضل» من كفاءات الوزارة، «لكن للأسف يخضع هؤلاء لأمر مهندس بسيط قليل الخبرة في الوزارة». إزاء هذا التقييد لعمل البلديات، تضطر مجالس بلدية كثيرة إلى البحث عن «مخارج» تجنبها «مطبات» الأنظمة والوزارة. الكوفحي لا يكشف سراً عندما يقول إنه في حال احتاجت بلدية ما إلى طرح عطاء «كبير» بقيمة 10 آلاف دينار مثلاً، قد يلجأ الرئيس إلى تجزئة العطاء إلى 3 دفعات تفادياً لرفض الوزارة التي تلتزم بنظام يحدد سقف الصرف المالي لموضوع العطاء بخمسة آلاف دينار فقط. وهنا يعتبر الكوفحي أنه لا بد من إعادة النظر في مثل هذه الأنظمة، وبخاصة عندما يتم التعامل مع بلديات كبرى مثل بلدية إربد. على الجانب الآخر من المعادلة، يرى نادر ظهيرات، وزير البلديات السابق، أن القانون هو الحكم في تنظيم العلاقة بين الوزارة والبلدية. ويعتبر أنه إذا «أحسن كل طرف الظن بالآخر»، فلن تكون ثمة مشكلة. ويتساءل ظهيرات عمّا يضير رئيس البلدية أن يدقق في أمور بلديته «تحسباً لأي خطأ ممكن قد يرتكبه»! ويرى أن الوزارة في نهاية الأمر معنية بحماية البلدية، ويدلل على ذلك بملايين الدنانير التي تخصصها الوزارة «مساعدات» وقروضاً للبلديات المحتاجة. ورداً على ما قيل حول كفاءة كوادر البلديات مقارنة بكوادر الوزارة، يقول ظهيرات إن أمراً كهذا يشعره بالفخر. لكنه يلفت إلى أن ثمة بلديات لا يتوافر فيها مساح أو محاسب أو مهندس؛ الأمر الذي يؤثر على سلامة القرارات التي قد تتخذها البلدية المعنية. ويشير ظهيرات إلى أنه سعى بنفسه إلى توقيع اتفاقية مع جامعات أردنية لتأهيل موظفين وأعضاء ورؤساء مجالس بلدية لتحصيل شهادات عليا في تخصصات مطلوبة بحكم عملهم البلدي. ولا شك في أن «الشخصية» باتت عاملاً مهماً في تحديد معالم علاقة تشوبها كثير من التداخلات. فمن ناحية، هناك من رؤساء البلديات من «يفرضون شخصيتهم» ويرفضون تدخل الوزارة في شؤون بلدياتهم بما يتجاوز على القانون. يُنقل عن وليد المصري الرئيس السابق لبلدية إربد الكبرى أنه كان يؤهل موظفيه بما يعرّفهم بحقوقهم وصلاحياتهم وبحقوق الآخرين وصلاحياتهم، فيكون ذلك بمثابة «صمام أمان» ضد أي «هيمنة» من جانب الوزارة. على الطرف الآخر، يُنقل عن وزيرة الشؤون البلدية السابقة أمل الفرحان أنها كانت تجمع موظفيها، وتقول لهم صراحة إنها ترفض أي تجاوز منهم على صلاحياتهم، وتنبه إلى أنهم سوف يساءلون في حال الخطأ. انتقاص استقلالية البلديات على هذا النحو إنما يؤشر على ضعف في الاستراتيجية التي يفترض أن تفضي، في نهاية الأمر، إلى تأهيل البلديات، ورفع سوية أدائها. لكن هذا الهدف ما يزال بعيداً عن التحقق، وما يزال «التخبط» في إعادة هيكلة مؤسسات الحكم المحلي السمة الأبرز مع تردي أداء البلديات، وزيادة مديونيتها، وتفشي المحسوبية فيها. |
|
|||||||||||||