العدد 55 - ثقافي
 

حكمت النوايسة

كانت مجلّة «تايكي» قد احتفلت بالكاتب المبدع الحي محمد طملية في حياته، ويُسجّل للمجلة أنّها اختطت سنّة حميدة في الاحتفاء بالأحياء، الذين يأكلون الخبز معنا ويمشون في الأسواق، وربما كان أجمل ما أُعجب به كاتب هذه السطور احتفاءَها بالكاتب طملية، ذلك أن هذا الاحتفاء كان بمثابة استفتاء حول هذه الشخصية الإشكالية في الأدب وفي الحياة، لكنّ كثيرين ظنّوا أنّه تأبين مبكر، ولعلّ منهم طمليه نفسه.

أتغيّب عادة عن مثل هذه الاحتفالات، لأسباب كثيرا ما أجهلها، غير أنّني عندما دُعيت للحضور وجدتني لأسباب أجهلها مصرّا على الحضور، وعطّلت برنامجا كاملا كنت قد أعددته مسبقا ليوم ربيعي جميل صدف ذلك اليوم.

أحبّ محمد طمليه، وهذا سبب غير كاف، أو غير مقنع لي على الأقل، لكنني ذهبت بإصرار، ووجدت كثيرين غيري هناك، ربما يقاسمونني ما أنا مفكّر فيه؛ ذلك أن المكان ضمّ جنباً إلى جنب: الشيوعي، والقومي، والحكومي، والمتدين، والمتطرف، والموارب، والشفاف و«الغامض، والقناص، والزاهد. كان هناك «خليّ الشهوة»، والحسّاس، و«غائب الفيلة» والجسّاس. بهؤلاء جميعاً، رأيتُ حباً واحتراما لمحمّد طمليه، وأظن أنّ كثيرين قد غيبتهم أمور قاهرة.

أفكر هنا بصوت عال؛ ما الذي جمعنا هناك، في بيت تايكي؟.

لا أظن أنّه صوت محمود عيسى موسى الذي غنّى في تلك المناسبة، ولا فرقة رم، ولا رحابة أهل البيت، على أهميّة ذلك كلّه أو رهافته، وأظن أنّ ما جمعنا بين ساخر وحائر هو طمليه، العبقري الساحر، طمليه النموذج الحي الذي ألفناه على إخلاص الفنان لفنّه، وموهبته الفذة وعبقريته.

له أسلوب يقهر حسدا، فأنت دائما مكسورٌ أفقُ توقُّعك وأنت تقرأ له، مفارقة ملازمة، لكنّها نابعة من عبقرية مؤكدة، أين تبدأ القصة وأين تنتهي؟ لا تعلم، لكنّك ما إن تنهي القراءة حتى تعلم أن وراء ذلك عقلاً صافياً لا تشوبه شائبة، وسويّة إبداعية مذهلة، مدهشة دائما، تخالفه في الرؤيا، وفي الثقافة، لكنّك لا تستطيع أن تقاطعه في الإبداع، لأنّك ستخسر الكثير.

معجم لغوي يكاد يكون محدودا، لكنّ سحرا يُنفث فيه؛ فترى العبارة غير العبارة في كلّ مرّة.

نظرة وجودية مترسّخة المعالم، لكنّها في كلّ مرة تبدو خارجة طازجة من تنور قديم.

إلى أين يقودك التجاور الغريب في الكلمات؟ لا تعلم. لكنك تتوقع ما لا تتوقعه، أو تتوقع شيئا غير متوقع، ودائما إنسان «جايبها من الآخر»، فهو دائما ينتظرنا هناك في الآخر، عندما يسقط الآني والنفعي، والزائف، والمداهن، أمام سطوة الحياة وضعف الإنسان، وضعفه المتفاقم عندما يكون عربيا، ينتظرنا بسخرية غير ملوث بشيء من «متاع الغرور» وربما كان تكرّر لفظ «حذاء» في كتاباته آتيا من كونه يستخدمه كثيرا استخداماً غير معتاد.

أما سلمى، التي ما انفكّ طمليه يكررها في نصوصه ومقالاته، فهي التي تشدُّ هذا العبقري إلى معاقبتنا جميعا لأننا جميعا قد ساهمنا بغربتها، أو قتلها؛ ذلك أننا احتفظنا بأحذيتنا متوهمين أن أقدامنا ستصير بحجمها، ولم يخطر لنا بما نتوهمه من «بال» أن نقايس بها أشياء أخرى غير أقدامنا.

محمد طمليه.. ما تعليقك على حذاء منتظر الزيدي؟.

محمّد طمّليه... خسرناك رحمك الله.

محمد طمليه.. ذكرى تأبينه حيّاً
 
14-Dec-2008
 
العدد 55