العدد 55 - ثقافي | ||||||||||||||
عواد علي حين طلب منه كاتب هذه السطور أن يتحدث عن نفسه قال: «أنا المدعو يوسف. ولدت بلا تاريخ معروف في الصيف، على سطح عالٍ مكشوف.. بالقرب من نخلة تمر «البربن» في الفلوجة.. يقولون إني مكثت شهرين في بطن أمي أكثر من الحمل المألوف. جربت عناد الدنيا كي لا أولد كأطفال الناس. صرخت قابلتي «الجدة فطم»: سيموت هذا الطفل، فقدماه قد خرجتا من رحم الأم قبل خروج الرأس. وراحت تتعوذ من شر الوسواس الخناس. لكني حين لامسني الماء الدافئ بكيت، بكيت حتى خافوا مني.. فضحكت على من خاف مني. بعد الضحك أعلنت قبولي فرداً في هذي الدنيا مضطراً لا مختاراً. لكي يجمّلوا كل عذابات «الآتي» اختاروا لي اسم نبي الحُسن «يوسف»، فصرت: يوسف إسماعيل عبد العاني». تشير سيرة الفنان والكاتب العراقي يوسف العاني إلى أنه ولد العام 1927، وقد استيقظ ووجد نفسه يتيماً بلا عطف أو حنان، غريباً متنقلاً بين بيوت أقربائه، فحفزه اليتم والغربة على أن يحقق ذاته بطريقة مميزة ، فإذا به وهو في الرابع الابتدائي، يصعد إلى مسرح المدرسة، ويؤدي دوراً تمثيلياً. يعجب به معلمه وخاطبه قائلاً: «ستصل إلى مسرح المدينة يوم...». صفق له التلاميذ فشعر بالانتشاء، وترسبت الشهرة في أعماقه. في طفولته أيضاً رأى الكرخ ببغداد مسرحاً مفتوحاً: فقراء، أغنياء، من طبقات شتى، ثم رأى الحي يعج بالمفارقات وبعجائب الاختلاف، وصنع وهو فتى مسرحاً شعبياً على دكة كبيرة في زقاقهم، وجعل أبناء محلته يمثلون، وعرف في ما بينهم بيوسف البهلوان، أو الممثل على الطبيعة. وكانت في زاوية على دجلة علوة كبيرة لأعمامه انتبذ فيها لنفسه ركناً، وهيأ مسرحاً مرحلياً مثّل عليه شباب مسرح ذلك العهد. يقول العاني: «كان عمري في 24 شباط/ فبراير سنة 1944 سبعة عشر عاماً حين مثّلت، أول مرة، مسرحيةً في فصل واحد بعنوان «القمرجية» (لاعبو القمار) من تأليفي وإخراجي، ضمن نشاط جمعية العلوم في الثانوية المركزية ببغداد. كنت في الصف الرابع الثانوي (العاشر حسب التسمية الأردنية)، وأعتبر ذلك اليوم يوم ميلادي الفني، فقد كانت المسرحية بالنسبة لي حدثاً كبيراً، وتجربةً علمتني الكثير لاكتشاف حقيقة المسرح ومكانته بوصفه نشاطاً ثقاقياً، وأثراً يؤدي دوره الاجتماعي والفكري». بعد مضي بضع سنوات على تلك التجربة أسس العاني مع جمع من الفنانين الشبان، وهم طلاب في كلية الحقوق، جمعيةً أطلقوا عليها «جمعية جبر الخواطر»، وكان النشاط المسرحي لهذة الجمعية منصباً على نقد الواقع خارج الكلية من خلال نافذة القانون، موضوع دراستهم اليومية. وقد دفعه تعلقه بالمسرح إلى إكمال دراسته في معهد الفنون الجميلة- فرع التمثيل، وكان يجمع بين تلك الدراسة وعمله محامياً ومعيداً في كلية التجارة والاقتصاد منتصف القرن الماضي. ورغم أنه احتفظ بالمركز الأول على زملائه مدة أربع سنوات فقد فُصل في السنة الأخيرة العام 1952 لمواقفه السياسية الوطنية والتقدمية. في السنة التالية طلّق العاني مهنة المحاماة وأسس مع المخرج الراحل إبراهيم جلال وعدد من الفنانين «فرقة المسرح الحديث»، التي ستحتل أرفع مكانة في مسيرة المسرح العراقي حتى الآن، وأخذ يكتب لها أغلب نصوصه المسرحية، التي تناوب على إخراجها إبراهيم جلال، جاسم العبودي، سامي عبد الحميد، بهنام ميخائيل، قاسم محمد، محسن العزاوي، فاضل خليل، وآخرون. يتفق العديد من دارسي مسرحيات العاني على أن دخوله عالم التأليف المسرحي بدأ بنص "راس الشليلة" العام 1950، رغم أنه كتب قبله عشرة نصوص، منها مونودراما "مجنون يتحدى القدر" العام 1949، الذي ربما يكون أول نص مونودرامي يُكتب في المسرح العربي. يماثل ظهوره في العراق، كما يرى علي الراعي وغيره من الباحثين، ظهور توفيق الحكيم في مصر، وسعد الله ونوس في سورية، كونه كاتباً لم تتوافر له الموهبة وحسب، بل امتلك ما يليها في الأهمية، وهو استمرار الإبداع، وزاد عليهما أمراً آخر مهماً هو معاناة التجربة المسرحية من زوايا أخرى غير التأليف، وأهمها التمثيل. العاني أقرب من غيره إلى مفهوم رجل المسرح، إذ يجمع بين ركنين من أهم أركان العملية المسرحية: التأليف والتمثيل. يعترف العاني بأنه «بدأ التمثيل مقلداً ومعجباً بممثلين معروفين في مرحلة مبكرة من سيرته، فاستهواه يوسف وهبي، أول الأمر، ثم ثار عليه وعلى طريقته الأدائية وتعلق بأسلوب الريحاني، وحين نضجت تجربته وتهيأ له أن يزور ثلاثة أرباع مسارح العالم تعلم كثيراً، واكتشف كثيراً، وأسس مسرحه الخاص به». كشف العاني في نص «راس الشليلة» عن الفساد الإداري في الدوائر الحكومية في بداية الخمسينيات بأسلوب يشبه أسلوب التمثيلية الإذاعية، ويجمع فيه بين العرض الواقعي والمنحى الكوميدي، هادفاً إلى نصرة المظلومين البسطاء من أبناء الشعب على خصومهم ومستغليهم.. وينتقل في نص «آني أمك يا شاكر» (1954) إلى المسرح السياسي متأثراً برواية مكسيم غوركي الشهيرة «الأم»، فيصور بطولة المرأة (الأم وابنتها وجارتها) ووعيها السياسي المتقدم، وإرادتها القوية في مواجهة السلطة الغاشمة والانتهازيين الذين يقدمون مصالحهم على قضايا الوطن المصيرية. في نص «المفتاح» (1968) يخطو العاني خطوات متقدمةً في كتابة مسرحية ذات بناء درامي حديث، مستثمراً التراث الشعبي من خلال أغنية فولكلورية شائعة ليطرح رسالة مفادها أن الإنسان لا يحصل على هدفه بالتعب فقط، بل بالطريق الذي يسلكه لتحقيقه. ويتمثل في نص «الخرابة» (1970) بعض الاتجاهات المسرحية المعروفة في المسرح العالمي، كالملحمي، الوثائقي، الشعبي، مسرح العرائس في نسيج درامي، وبأسلوب أقرب إلى الفانتازيا التي تساوي بين الواقعي والتاريخي من جهة، والسحري والأسطوري من جهة أخرى، ليكشف من خلال الإيحاء عن الخراب الذي يلف حياتنا. بعد هذه التجربة المثيرة يعود العاني في نص «الخان وأحوال ذلك الزمان» (1976) إلى عالمه الشعبي الذي يتقن أسراره وخباياه، إنه عالم «الخان» في مرحلة الأربعينيات من تاريخ العراق بأجوائه وشخصياته الحافلة بالحيوية والنبض الإنساني والوطني. ويشكل الخان في هذه المسرحية رمزاً للمجتمع العراقي في الأربعينيات بما يمور به من صراعات وتناقضات اجتماعية وسياسية. يقول العاني: «وقفت في هذه النصوص المسرحية، والنصوص التي تلتها على مفاصل حيوية في بنية المجتمع العراقي خلال العهود السابقة برؤية تقدمية، وأشكال درامية عديدة، وحاولت الإجابة عن أسئلة يطرحها العصر والضمير الإنساني تعبيراً عما يشهده العالم من صراعات وتضارب في المصالح». كرمته عمّان ولكن.. يقيم العاني منذ سنتين في عمّان، ويتابع عروض فرقها المسرحية بانتظام، ويشارك في الندوات الفكرية والنقدية التي تعقدها مهرجاناتها المسرحية السنوية، بحيوية وذهن متقد، ويتحمس لتجارب المسرحيين الشبان في الأردن مثلما يتحمس لتجارب أقرانهم في الدول العربية، ويكتب عنها بين حين وآخر بروح متفتحة على الجديد، مؤمنة بأن أصحابها يواصلون ما أنجزه هو وزملاؤه الرواد. ما من مرة رافقته لمشاهدة عرض مسرحي في المركز الثقافي الملكي أو مركز الحسين الثقافي حتى سألته عن رأيه فيه، فيبتسم إذا كان العرض قد أعجبه، قائلاً بلهجته البغدادية «والله يابه بديع.. آني كلش فرحان ومستمتع»، إما إذا لم يعجبه العرض فتنقبض أسارير وجهه ويقول: «مع الأسف.. هذوله بعد ما عارفين شنو المسرح». العام الماضي كرّمه مهرجان ليالي المسرح الحر في عمّان، وقبل أيام كرّمه مهرجان المسرح الأردني الخامس عشر في دورته العربية السابعة، لكن تكريم مبدع مسرحي كبيرمثل يوسف العاني ليس كافياً من وجهة نظرنا، بل ينبغي أن تستفيد الحركة المسرحية في الأردن من خبرته بطريقة عملية، أقلها أن يكون مستشاراً يسهم في تطوير البرامج والمهرجانات المسرحية. |
|
|||||||||||||