العدد 54 - كتاب
 

بينما أصبحت الديار العربية أكثر قرباً من بعضها بعضاً، بفضل وسائل الاتصال الحديثة من إنترنت وأجهزة خلوية وفضائيات تلفزيونية، فإن واقع الحال على الأرض ينبىء بخلاف ذلك. الاقتراب الذهني والمعرفي، يجري إبطاله والحد من مفعوله، بتباعد واقعي وفعلي يتمثل في ارتفاع متزايد لكلفة السفر، وبخاصة عبر الأجواء حيث الطيران هو وسيلة النقل الرئيسية، مع رقابة مشددة على حركة وتنقل الأفراد، تصل أحياناً إلى غلق الأبواب أمام القادمين.

تلك مفارقة كبيرة من مفارقات زماننا. ففي زمن مضى كانت وسائل التعرف على ما يجري هنا وهناك، ضئيلة حتى أنه كان يُركن إلى المرويات والإعلام الشفوي، لكن الحدود لم تكن تشكل حواجز وموانع، أمام من يرغب في شد الرحال إلى هذه الوجهة أو تلك. الآن انعكست الصورة : التعرف على الأشياء بات متاحاً وميسوراً وبكلفة قليلة عموماً، لكن عن بعد..دون معاينة قريبة ومباشرة.

هذا التباعد الفعلي يجد تعضيداً له، في انغماس البلدان والمجتمعات العربية في المشرق والمغرب بشؤونها الذاتية وقضاياها المحلية، بصورة تامة لا تترك حيزاً أو فسحة للانشغال بقضايا «قومية» سوى في حدود ضيقة..وعبر متابعة وسائل الإعلام وبالذات السهر «على التلفزيون».ليس الانشغال بالقضايا الوطنية نقيصة، على أن هذا الأمر يغدو شكلاً من أشكال النكوص في غياب مشروع قومي نهضوي يعيد جمع الشعوب، بل هناك من يرى غياباً حتى للمشاريع الوطنية الكبيرة والملهمة التي توحد الناس، في هذا البلد أو ذاك.

ذلك ما يفسر غياب التفاعل، والانقطاع الى الشؤون الذاتية، وصولاً الى غربة العربي عن شقيقه العربي حتى في بلد مجاور. فهو يعرفه ويجهله في الوقت نفسه، يثق به مبدئياً ويخشى منه «على سبيل الاحتياط» وهناك ما يجمعه به وما يفصله عنه، يعثر على لغة مشتركة معه لا تلبث أن تتبدد وسط التأويلات والمرجعيات المختلفة،ولا ينفع هنا إطلاق وترديد الشعارات، أو استحضار الماضي القريب التليد، لتعزية النفس مما تكابده من تبدل وانقلاب الأحوال.

ما زال العرب، وبخاصة من ينتمون للشرائح الميسورة، يتزاورون ويتنقلون من بلد الى آخر.. لكنهم يفعلون ذلك كسياح وزوارغرباء. يتم في العادة الترحيب بالضيوف الأجانب أكثر منهم، بما يجعلهم عملياً «أجانب أكثر من الأجانب»، أو ضيوفاً سرعان ما تنتهي فترة ضيافتهم، وأحياناً تنتهي فترة السماح لهم بالإقامة.

رغم ذلك تلتهب شعارات ووعود قومية على المنابر، تردد صداها فضائيات وتصل الى مسامع مستمعين في العشيات، فلا يكون من شأنها سوى التسبب بعسر الهضم، لمدى افتراق المنطوق به عن المعمول به، ولتلك العلاقة العكسية المطردة بين الوقائع والمسامع. ومع الأخذ في الاعتبار أن بعض التطرف المناهض، يجد جذره في تطرف الأحوال القائمة وانسداد آفاقها.

العربي غريب الوجه واليد واللسان، في ديار العروبة. و«لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أحلام الرجال تضيق..».

محمود الريماوي: أكثر قرباً، أشد بُعداً
 
04-Dec-2008
 
العدد 54