العدد 54 - أردني
 

حسين أبو رمان

حافظت حكومة نادر الذهبي على ارتفاع شعبيتها بمقدار واضح، وهو أمر في منتهى الأهمية بوصفه مقياساً للثقة بين المواطن وبين الحكومات، التي عادة ما تبدأ بثقة عالية نسبياً ثم تأخذ قي التآكل تدريجياً.

هذه الشعبية، لم تكن بلا سبب وجيه، فقد كانت حكومة الذهبي أول حكومة تتخذ خطوة بتخفيض أسعار المحروقات، في حين اعتادت حكومات سابقة على رفعها، ما منحها صدقية جعلت وعودها بتوسيع مظلة التأمين الصحي وربط الرواتب بمعدلات التضخم، يقع موقعاً حسناً لدى أبناء هذا الوطن.

هناك خطوات أخرى اتخذتها حكومة الذهبي، خارج الدائرة الاقتصادية التي تتميز بمساسها حياة الناس مباشرة، ففي عهدها حدثت تحولات مهمة في السياسة الخارجية: فتح حوار مع حركة حماس، إعادة العلاقات مع قطر إلى سابق عهدها، وتحسنها مع سوريا. هذا كله لا يعني ثبات الرأي الذي التقت فيه النخبة مع المواطنين بعد عام على تشكيل الحكومة، ففجوة الثقة بين المواطن والحكومة ما زالت قائمة ولم تجسر بعد، وكي تجسر هذه الفجوة فالحاجة قائمةإلى استطلاعات رأي أخرى، تعكس استمرار التقييم لأداء الحكومة، وبخاصة ما يتعلق بالطريقة التي تعالج فيها الحكومة القضايا الأساسية.

إن حكومة تتمتع بهذه الثقة، تصبح معنية بألا تقصر دورها على إدارة الأزمات، فواجبها الرئيسي وضع الرؤى لتنمية وطنية شاملة عبر برامج قابلة للتطبيق، فوظيفة الحكم هي تحسين حياة الناس على المستويين المادي والروحي، والتنمية بمعناها الواسع ذات أجنحة تشمل سائر نواحي الحياة؛ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

إن الشفافية والحاكمية الرشيدة التي يحرص عليها المجتمع المتقدم ونخبه المتنورة، ليست شعارات تطلق في المناسبات، أو غطاء لتمرير سياسات غير حصيفة، وإنما هي أفعال لها وظيفة حقيقية في المساعدة على توفير مقومات النهوض بالتنمية.

تفيد تجارب العالم المتقدم أنه في البلاد التي تكون فيها الصحافة حرّة، والبرلمان فعّالا، والأحزاب نشطة، يقل الفساد وتقل معه مختلف مظاهر الهدر وسوء الإدارة، ما يجعل الحكومة مدعوة لأن تبدأ بالاستثمار من أجل المستقبل، وأمامها عدد من الملفات المهمة المعطلة التي تترحل من حكومة إلى أخرى، وقد آن الأوان للتعامل معها في المدى المباشر، فالمزيد من التأخير يعني عواقب مضاعفة.

هنالك ملف النقل العام، الذي لم يتقدم خطوة واحدة على طريق التطبيق، على رغم أنه على درجة عالية من الأهمية بالنسبة للمواطن، من حيث مساهمته في حل مشكلة المرور ومشاكل أخرى، على رأسها مشكلة الطاقة التي تخضع للأسعار العالمية للنفط، ما يعني أنها لن تبقى على ما هي عليه اليوم بعدما أصبحت في متناول يد المواطن. هنالك ملف المياه الذي ما زال قائما ولم تجد له حكومة الذهبي حلاً رغم المحاولات التي بذلتها خلال الشهور الماضية. أما الملف الأكثر خطورة، فهو ملف الصحة إذ تشير تجربة مستشفى الأمير حمزة على سبيل المثال إلى أنه لن يأتي بمزيد من الشعبية إلى الحكومة، إن هي مضت في خصخصته، ومع التأكيدات التي يطلقها مسؤولون بأن ما يجري ليس خصخصة، ومع تسابقهم في شرح الفرق بين الخصخصة والنظام الخاص، الذي سيطبق على المستشفى الحكومي. سوف تزداد الأمور سوءا إذا عممت هذه الخطوة غير الشعبية على مستشفيات حكومية أخرى، ما زال الفقراء يجدون فيها ملاذاً من ارتفاع أسعار المستشفيات الخاصة، والتي يبدو أن مستشفى الأمير حمزة يسير على خطاها من حيث الأسعار.

وتنتظر ملفات التعليم المدرسي والعالي، وملف الإصلاح السياسي، حلولاً مبتكرة. وما زالت سياسة الاسترضاء العابرة للحكومات، تشكل عبئا ليس على الحكومات وحدها، بل على المجتمع الذي يتطلع للانعتاق من أسر هذه الآفة التي شكلت نقطة سوداء في ثياب الحكومات السابقة، وما زالت كذلك بالنسبة للحكومة الحالية.

الملفات المذكورة محورية وصعبة بكل تأكيد، ويلزم بعضها توافق وطني واسع، لذلك فإنها تحتاج إلى مدى زمني طويل نسبياً للإنضاج، وإلى أخذ حقها من الحوار الوطني العام، ما يتطلب تشكيل لجان لها تقوم بإعداد السيناريوهات المناسبة دون تأخير.

بالإفادة من الثقة الشعبية وثقة قادة الرأي العالية بها، فإن الحكومة معنية بالإسهام في إعادة تعريف دور الدولة في الحياة العامة، فالدولة مطالبة بترسيخ دور ريادي لضمان كرامة عيش المواطنين وتمتعهم بحقوقهم وحرياتهم ، وسيادة العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بينهم، وتوجيه الإنفاق العام لسد الفجوات في الخدمات الأساسية، فتحسين الخدمات ليس ترفاً، بل هو من أبرز حقوق المواطنين على الدولة.

ما تقدم لا يعني الدعوة للعودة إلى أنظمة القطاع العام القديمة، فالدولة توظف من هي بحاجة إليهم لإدارة شؤونها، لكنها ليست ميداناً للتوظيف العام، فوظيفتها الأساسية تهيئة كل مواطن كي يكون قادراً على إيجاد فرصة عمل، سواء في الوطن أو الإقليم أو العالم.

التاريخ السياسي للأردن سيكتب في حينه، ولا يدخل هذا التاريخ إلا المسؤولين الكبار الذين يسهمون في نقل بلادهم من حالة إلى حالة أرقى أساسها المواطن، وتجنب الكوارث العابرة للحدود.

إلى ذلك كله، فإن تكليف الحكومات تفويض لها بالولاية الدستورية العامة، فهي أم المؤسسات، لا هيئة لإدارة الأزمات.

الذهبي بات يحظى بوضع مثالي كي يحكم، وهو يتمتع بدعم قوي من الملك عبد الله الثاني وبالولاية الدستورية كاملة، فمنذ بداية عهد، فتح هذا الملف للنقاش العام، وتشكل تيار واسع سياسي ونيابي مناهض لوجود حكومات ظل، تربك الخطط الحكومية. والذهبي الآن، بوجود تناغم عميق مع رأس المخابرات العامة، وناصر اللوزي البعيد عن أجواء الأجندات الخاصة في رئاسة الديوان الملكي، يمتلك كل الفرص لتوحيد مرجعية القرارات الحكومية، ووضع خطط بعيدة المدى لترجمة البرنامج الحكومي دون هدر للوقت والموارد.

وبما أن الرئيس أمام استحقاق تعديل وزاري مقبل، فإن الذهبي الذي خبر وزراءه واحتياجات العمل الحكومي، مدعو للتدقيق في إجراء تعديل لا يكون هدفاً بحد ذاته، بل فرصة لإدخال وزراء يتمتعون بالكفاءة والصدقية، كل في مجال اختصاصه، كي يكونوا عوناً للرئيس على حمل أعباء الوزارة في منعطف محفوف بالتحديات والمخاطر.

يستطيع الذهبي ترسيخ منهجية الأداء الحكومي، وتعزيز المؤسسية في مفاصل العمل الوزاري بإعادة الاعتبار للأجندة الوطنية، وتحديث ما يلزم تحديثه لتصبح الأجندة مرشداً حقيقياً لعمل الدولة،على صعيدي المنهج والخطط ذات البعد الإستراتيجي.. ومن اللافت أنه قلما يؤتى على ذكر هذه الوثيقة البالغة الأهمية.

بعد أن تخطت عامها الأول بقدر من النجاح :حكومة الذهبي أمام تحدي الملفات الكبرى
 
04-Dec-2008
 
العدد 54