العدد 54 - أردني
 

نهاد الجريري

يروي شاب عشريني كيف أن نائب منطقته، شرق المملكة، يستغل المناسبات ليظهر «على الناس» في موكب يبدو «مهيبا»، وبخاصة وأنه يخرج في نفر من أقاربه الذين لا يعوزهم السلاح. ويزيد هذا الشاب، وبفخر لا يقبله عقل، أن أحدا لا «يسترجي» أن يترشح ضد هذا النائب، وكأن المدينة صارت مدينته وحصنه المنيع بحكم الأمر الواقع.

صورة نائب «زعيم» مثل هذه هي التي ما انفكت الحكومات الأردنية المتعاقبة تحاول تعزيزها؛ فتخلق زعامات من أفراد لا لإنجاز حققوه أو نضال خاضوه، وإنما لأنهم بشكل أو بآخر «انتخبوا» نوابا للشعب وصار لهم «صوت» يفترض أنه يردد صدى الشارع أو الأمة.

للحكومات أساليب مختلفة في تدعيم هذه الزعامات، بما يخدم مصالحها وحدها، وبما يحقق التفافا على القوانين. فقد تخصص وظائف بالعشرات لناخبي نائب ما، كما حدث مع موظفي الدرجة الرابعة ممن لا يتطلب تعيينهم توصية من ديوان الخدمة المدنية، أو قد يصل بها الأمر حد منح مبالغ مالية لنواب وصلت قيمتها 100 ألف دينار على شكل شيكات بأسماء ناخبين، كما قال مصدر لـ«السّجل».

حكومة الذهبي لم تختلف في مسيرتها عن هذا النهج في استمالة واسترضاء النواب. ولا أدل على ذلك من قرار الحكومة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي منح الإعفاءات الجمركية للنواب الجدد، ومنح إعفاء بنسبة 50 في المئة للنواب القدامى. وفيما منح المواطنون زيادة لم تتجاوز في حدها الأقصى 50 دينارا لمواجهة غلاء الأسعار الذي يطحن المواطنين، مُنح النواب زيادة مقدارها 500 دينار. ولم تفوت الحكومة موسم الحج، فمنحت كل نائب 5 تأشيرات للحج في وقت تهيب فيه سيدة على أثير إذاعة محلية، بالملك لأن يتدخل للسماح لها بالحج، لأن وزارة الأوقاف ردت طلبها لأداء الفريضة للسنة الخامسة على التوالي، لأنها من مواليد 1948، في حين أن المسموح بالحج توقف عند مواليد 1943.

الكاتب فهد الفانك لا يتردد في وصف هذه القرارات بأنها «رشوة»! ويزيد أن الحكومة إنما تريد أن «تكف عنها شر النواب». ويشرح أن نوابا هددوا بحجب الثقة عن وزير المالية الحالي عندما اعترض على تلقي «هدايا» من نوع منح حق بيع الإعفاء الجمركي. ويستدرك الفانك بأن هؤلاء ربما لن يستطيعوا حجب الثقة، لكنهم بعثوا رسالة مهمة مفادها «نحن قادرون على إلحاق الأذى بمن لا يعطينا».

حمزة منصور رئيس كتلة جبهة العمل الإسلامي في المجلس لا يعتبر هذه العطايا رشى، بل نموذجا آخر لعدم المساواة، وتمييز شريحة من المجتمع على أخرى؛ ويجمع في هذا التمييز بين النواب ومتقاعدين عسكريين ومدنيين، لكنه في الوقت نفسه يعتبر أن الحكومة تسعى للحصول على ثقة عالية من النواب، وأن تبقى هذه الثقة في أعلى مستوياتها.

ويرى منصور أن الخلل في هذه المعادلة سيبقى ما بقي قانون الانتخاب الحالي القائم على الصوت الواحد، الذي لا يؤدي إلى انتخابات حقيقية وعادلة وديمقراطية تفرز حكومة منتخبة من الشعب.

في الإطار نفسه، يرى منير الحمارنة، الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني، أن استرضاء النواب ظل سمة في الحكومات المتعاقبة التي «تحب أن ينحاز إليها مجلس النواب»، رغم أن هذا المجلس «غير منحاز لمصالح الناس»، على اعتبار أن انتخابهم جاء على أساس الصوت الواحد. ويذكر الحمارنة بالكيفية التي تمكنت بها حكومة الذهبي من تمرير مشروع الموازنة العامة للدولة في مجلس النواب، دونما تمحيص أو مناقشة جدية من جانب النواب، بالرغم من أنها من «أخطر» الموازنات في تاريخ المملكة، نظرا إلى الوضع الاقتصادي العالمي. ويزيد الحمارنة أن مجلس النواب، بتمريره مشروع الموازنة، ارتكب «فضيحة» في تاريخ العمل النيابي في الأردن، إذ اقتصرت مداخلات النواب على «شتم الليبرالية الجديدة» من جهة، والمطالبة بخدمات لمناطقهم الانتخابية من جهة أخرى.

ولا شك في أن تمرير قوانين حاسمة كهذه بقليل من الجدل هو أقصى ما تسعى إليه الحكومات عندما تحدد علاقتها مع مجلس النواب. عريب الرنتاوي، مدير مركز القدس للدراسات السياسية، يقول: «ثمة فرق بين أن تمر الأمور بيسر وبين أن تمر بصعوبة». وهكذا لم تختلف حكومة الذهبي عن سالفاتها من الحكومات في حرصها على أن تكون لها «درجة» من التأييد والنفوذ في المجلس. ويلمح الرنتاوي إلى أنه بالرغم من «نجاحات» حققتها حكومة الذهبي، فإنها لم تستطع أن تنأى بنفسها عن سياسة الاسترضاء هذه.

لكن هل كانت حكومة الذهبي «مضطرة» لاستمالة النواب على هذا النحو. محرر الشؤون المحلية في صحيفة العرب اليوم فهد الخيطان يعتبر أن الحكومة تتمتع بعوامل «قوة» تساعدها على تجاوز أي متاعب قد تنشأ مع النواب. ومرة أخرى، فهو يرى أن المجلس الحالي بتركيبته القائمة على أساس الصوت الواحد لا يمكن أن يقف في وجه الحكومة.

ويؤكد الخيطان أن حكومة الذهبي كانت «أقل» حكومة تمنح امتيازات، ويدلل على ذلك باحتجاج عدد من النواب على عدم منحهم «وظائف وتعيينات» كما كان معهودا في حكومات سابقة. ويروي أنه سمع من أمين سابق لأمانة عمان يقول إن رئيس وزراء استعان به لتعيين عشرات الأشخاص إرضاء لنوابهم.

لكن هذا لا يعفي هذه الحكومة من مسؤولية منح الإعفاءات للنواب الجدد، وهو ما «كرّس» مفهوم التجاوز على القوانين والدستور، بحيث أن هذه الامتيازات سرعان ما شملت الأعيان الذين حصلوا على المنح ذاتها.

سياسة الاسترضاء: آفة قديمة لم تنجُ منها حكومة الذهبي
 
04-Dec-2008
 
العدد 54