العدد 9 - اقليمي | ||||||||||||||
لا مجازفة في التخمين أن مسألة انتخاب الرئيس اللبناني تتجه إلى الانفراج، وأن حدّة الأزمة السياسية العامة في هذا البلد قد تنخفض وتعرف مقادير من هدوء، بعد نحو عامين إلا قليلاً من صخب السجالات والاتهامات بين طرفي الانقسام الحاد، بين الأكثرية والمعارضة. والبادي أن الخطة العربية الثلاثية التي أقرها مجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة يومي 5 و6 الشهر الحالي، ستكون الصيغة التي يهتدي بها الفرقاء اللبنانيون في الذهاب إلى حلول متفاهَمٍ عليها، تبدأ بانتخاب العماد «ميشال سليمان» رئيساً للجمهورية لتتشكل بعد ذلك حكومة وحدة وطنية لا يمتلك فيها قوى الأكثرية النيابية سلطة فرض القرارات، ولا تمتلك حصّة المعارضة من الوزراء إمكانية تعطيل القرارات، فيكون للوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية كفّة تمريرها أو إسقاطها. ولينصرف مجلس النواب بعد ذلك إلى صياغة قانون انتخاب جديد بدل الحالي الذي يعارضه المسيحيون خصوصاً في الموالاة والمعارضة. ولأن أحداً ليس في وسعه أن يحسم ما إذا كان لبنان سيعرف تهدئة سياسية ناضجة وتوافقاً واسعاً على طرائق إدارة الدولة في المرحلة اللاحقة، على الأقل إلى حين موعد الانتخابات النيابية في 2009، فإن أكثر من ظاهرة يمكن تعيينها في مسار الأزمة التي كانت نذرها شديدة الوضوح قبيل الحرب العدوانية الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006، واشتعلت عقب انتهاء الحرب، وكان سحب حزب الله وحركة أمل الوزراء الشيعة من الحكومة الانعطافة الأهم في ذهاب الأزمة إلى التوترات التي تدحرجت كثيراً، واستدعت وساطات خارجية كثيرة، وفي الأثناء كانت الخيوط السورية والإيرانية والسعودية والأميركية والفرنسية الأوضح من غيرها. يؤتى على هذا المسار الموجز، للتأشير إلى أن من الظواهر أو ربما الحقائق، التي عوينت في أثنائه، أن الصوت اللبناني المدني الأهلي كان ضعيفاً، إن في الاحتجاج على التردّي الذي بلغه الأداء السياسي العام، أو في رفض الاصطفافات التي تداخلت فيها الأهواء والنوازع الطائفية والأوهام والرهانات الخارجية، أو في صوغ رؤى وأفكار وطروحات تطمح إلى انتشال لبنان مما أخذه إليه الانقسام السياسي، أو في تظهير شبكة من قوى المجتمع الحيّة، غير المرتهنة إلى خيارات هذا الطرف ونوازعه وذلك الطرف وأغراضه. وإذا كان الفاعلون من أقطاب ورموز وشخصيات الطبقة السياسية ومن حواليهم من صحفيين وإعلاميين، قد استأثروا بالحضور الكثيف والمضجر أحيانا، على شاشات الفضائيات اللبنانية وبعض العربية، فإن غياب أهل العمل المدني والأهلي والثقافي والحقوقي والاجتماعي من على الشاشات نفسها كان كاشفاً، ناهيك عن الغياب على الساحات والمنابر العامة. وإن أمكن العثور على أصوات فاعليات اقتصادية ناشطة في العمل التجاري والاستثماري كانت تحذر من المضي في التردّي العام، وتؤشر إلى تأثيراته السلبيّة على حركة الاقتصاد والإنتاج والسوق والنشاط التجاري، وقد طالب هؤلاء القوى والأحزاب والتكتلات في فريقي الأكثرية والمعارضة بأن تتوافق على تخريجات يمكن بها إنقاذ لبنان من مزيد من الإحباط ونذر التطير والشؤم. وفي الأثناء، كانت تمرّ عرضاً أخبار مسيرات وتظاهرات، قام بها شبان وشابات، حذّروا في بعضها من حرب أهلية محتملة في بلدهم، وظهروا في ملابس موحّدة، وشكل عشرات منهم سلسلة بشرية في مشهد يطلق صيحة بوجوب مغادرة المشهد السياسي اللبناني البعيد عن أي مآلات مبشرة وآفاق مبهجة، وكانت «خلصونا» وحركات شبابية تعاطى معها الإعلام وكأن نشاطاتها تنتسب إلى الأخبار المنوعة والخفيفة، وليست تعبيرات احتجاجية تحتاج إلى تدعيم وإنصات إلى هواجسها ومخاوفها، أقله من باب أن أعداد الشبان اللبنانيين الساعين إلى الارتحال عن بلدهم أمام السفارات في تزايد مطرد. وإلى المظهر اللطيف لهؤلاء الشباب الذين طالبوا السياسيين في بلدهم بالانتساب إلى بلدهم أولاً وإلى الخروج بتوافقات فيما بينهم لإنهاء حال التمزق البائس، حدث في يوليو تموز الماضي أن اتحاد الكتاب اللبنانيين دعا هيئات ثقافية إلى موقف وطني لبناني جامع لإطلاق ما سماه «ميثاق الحياة» الذي يريده «شرعة للبنانيين الذين لم تلوثهم أمراض الانقسام، ولم تجرفهم رياح الجنون إلى حيث الخراب والموت»، وأفيد في حينه أن فعاليات ثقافية تداعت إلى اجتماع في هذا الخصوص تلبية للدعوة، غير أن تنشيطاً لهذه الحالة أو لهذه الانتباهة النادرة على الأصح، لم يحدث لاحقاً، فلم يتيسر لهذه الواقعة الوضوح والحضور اللازمان لها وسط ضجيج الإعلام السياسي الحزبي، والطائفي، والمذهبي أحياناً. في وسع المرء، إذاً، أن يقف على نداءات اقتصاديين ورجال استثمار وأعمال لبنانيين، وعرب أيضا أبرزهم الإماراتي خلف الحبتور، وعلى صور فتية وفتيات أمام مجلس النواب اللبناني، وعلى بيانات خافتة الصوت والنبرة، تداعوا إلى شيء من الاحتجاج على إنهاك لبنان بالمقلق من تصريحات وأمزجة السياسيين والزعماء فيه، وعلى موجات التخوين بينهم، وعلى تعطيل المؤسسات الدستورية، وعلى كثير من أوجه الخراب السياسي والاقتصادي. غير أن أحداً، وهو يتابع هذا كله، سيلحظ في الوقت نفسه أن أجواء الأنشطة الثقافية والفنية والترفيهية في لبنان ظلت على وتيرة نشاطها المعهود، وظل يتقاطر إلى بيروت نجوم الفن والسينما والدراما التلفزيونية والغناء والطرب لتصوير الحوارات في البرامج التلفزيونية الوفيرة في الفضائيات العربية، الخليجية خصوصاً، وبعضها برامج صاخبة يتم إنجازها في استوديوهات أو قاعات ومسارح واسعة وبحضور جمهور غفير. يضاف إلى هذا وغيره أن القطاعات الأوسع من اللبنانيين لم تصرف كثيراً من الوقت في ملاحقة تصريحات السياسيين ومناوشاتهم في الجرائد والفضائيات، وظل الناس العاديون أكثر وفاء لخياراتهم الفردية وأمزجتهم، ومن دلائل ذلك الفشل المدوي للاعتصام الذي نظمته المعارضة في وسط بيروت، ولم يعد غيرَ خيام ملقاة في المكان لإعاقة النشاط العام في وسط العاصمة، وكذلك الضعف المريع في المشاركة في التصويت في الانتخابات الفرعية على مقعدين نيابيين في الصيف الماضي، ويمكن التدليل أيضاً بالنشاط الكبير الذي عرفته فنادق وملاهي بيروت في حفلات سهرة رأس السنة قبل أيام، وقد ذكرت صحيفة الأخبار البيروتية المعارضة أن اللبنانيين أنفقوا فيها نحو 50 مليون دولار. لم يكن متخيلاً ولا متوقعاً أن تجترح قوى ناشطة في المجتمع اللبناني المدني صيغاً لحل التأزم السياسي في بلادها، ولكن كان ملحوظا ضعف أصوات هذه القوى في الاحتجاج وتظهير الغضب، على ممارسات التكتلات السياسية ومهرجانات الكلام المملة التي ظل يغيب فيها أي حضور لقضايا عيش اللبنانيين في شؤون التعليم والإسكان والصحة وغلاء الأسعار. ومن المفارقات أن اللبنانيين يحظون بسعة فسيحة من الحريات العامة، ومنها حرية التعبير عن الرأي، وأن التشكيلات المدنيّة فيه من نقابات واتحادات وتجمعات وجمعيات وفيرة وقديمة، تنخرط فيها أعداد كبيرة من مختلف شرائح المجتمع. كما أن الصحافة ووسائل الإعلام هناك تحوز على مقادير عالية من الحرية والمهنيّة، وتخوض في كل شأن غيرَ مُثقلة بأي قيود وموانع كالتي تحضر بوفرة في غير بلد عربي. وبالنظر إلى هذا المعطى وذاك، يلحظ المراقب للمشهد خفوتاً لحضور مكونات المجتمع المدني في الفضاء العام، الموصوف هنا بشيء من الارتجال، أمام فداحة الحضور الثقيل للأحزاب وتمثيلات الطوائف والتشكيلات السياسية العديدة والمرجعيات الدينية، ما قد يعني أن فائض الحرية الوفير لا تتيسر له فرص استثماره على كل الأوجه والأصعدة، وأن ما يحدث أحياناً مما تستهجن هذه السطور ضعف حضوره إنما يحدث من باب رفع العتب، رغم النيات الطيبة والجهود المحمودة لنشطاء وفاعليات وشخصيات لبنانية في بلدها في حقول الثقافة والإعلام والعمل العام والاقتصاد. ويمكن التأشير هنا إلى دور رفيع ينشط في أدائه الدكتور سليم الحص، في تجمع يحارب الفساد وأشكاله، وفي تجمع آخر يحاول أن يبتدع خطاً ثالثاً مغايراً عما هي عليه الأحزاب وتمثيلات الطوائف القائمة، ويطمح إلى أفق سياسي مغاير، لا يقفز عن معطيات الواقع وتفاصيله الاجتماعية، وإنما يعمد إلى الوقوف على الجوهري والمشترك بين عموم اللبنانيين. |
|
|||||||||||||