العدد 53 - أردني
 

محمود الريماوي وحسين ابو رمان

يشكل انتشار مئات الجمعيات في ربوع المملكة، دليلاً على حيوية المجتمع، وشاهداً على فضاء اجتماعي، تتسع فيه دائرة الحركة والمبادرة للأفراد والجماعات.

نشأت الجمعيات مع نشوء الإمارة وصيرورة الدولة، وملأت فراغ السلطات ثم ازدهرت وفق قوانين ناظمة وضعتها الدولة ثم أقرتها المجالس المنتخبة، من قبيل جمعيات "النهضة الأرثوذكسية" و"الإخاء الشركسية" و"المقاصد الحجازية".

التكوين المبكر لهذه الجمعيات منذ العام 1925، عكس التركيبة المتعددة للمجتمع الناشئ، فمعادلة تعددية المجتمع لازمت النشأة منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي. بينما شكّل التوجه لإنشاء جمعيات إدراكاً مبكراً بأهمية هذه المؤسسات، قبل أن تبسط الدولة كامل سلطتها المركزية على جميع أراضيها ومواطنيها وتسن قوانينها العامة. فيما أسهمت عشرات الجمعيات خلال الربع الأول من القرن الذي شهد نشأة الإمارة، في التعاضد الاجتماعي أمام قسوة الظروف الاقتصادية وضعف التقديمات الحكومية، والتنازع الأهلي مع القوة الأجنبية المنتدبة.

استقلال الدولة في العام 1946 وما تلاه بعد عامين من وقوع نكبة فلسطين التي أعقبتها وحدة الضفتين، دفعت إلى تضاعف عدد الجمعيات، سواء على إيقاع الاحتياجات المتزايدة للسكان وأنماط الاختلاط المستجدة بينهم، أو مع نقل خبرة تشكيل الجمعيات مع جموع المهاجرين، وهو ما قاد إلى تشكيل دائرة للشؤون الاجتماعية في العام 1949. الأمر نفسه تكرر عقب حرب حزيران/يونيو 1967، التي أدت لموجة نزوح لمواطني المملكة من الضفة الغربية إلى الشرقية.

بهذا، أدّت الظروف الاقتصادية ثم السياسية (ومنها حظر الأحزاب في العام 1957) فضلاً عن انتشار التعليم، دوراً حاسماً في نشوء الجمعيات وتزايد عددها وتعدد أغراضها. وما زالت هذه العوامل تفرض نفسها على وجود الجمعيات ونشاطها. فـ"الخيرية" منها تؤدي بعض الأدوار في أوساط الشرائح الفقيرة، وفي مناطق الريف والبادية والمخيمات. فيما تُعين جمعيات العائلات والمناطق والجمعيات النسائية أسراً محتاجة، وتتدارك نقص التنمية والتفاوت الاجتماعي الحاد، ويتقدم أعضاء جمعيات عبر بوابة العمل الخيري لتحقيق تطلعات سياسية: فمن بعضها يخرج أعضاء مجالس بلديات ونواب في مجلس الأمة.

على هذا النحو تختلط تمثلات المجتمع القديم والحديث، فالحزبي أو النقابي أو المسيس المستقل، يجمع إلى صفته الحديثة هذه، هويته الأولى كابن منطقة بعينها وسليل عائلة بذاتها، وكثيراً ما يراهن على انتمائه هذا (عبر الجمعية) لبلوغ طموحه السياسي وحتى المهني. بذلك تعيق مثل هذه الجمعيات مع النوايا الطيبة لمؤسسيها، عمليةَ الاندماج الاجتماعي عبر تحقيق منافع فئوية مشروعة، كان يمكن تحقيقها ضمن أطر أخرى بانعكاسات أفضل وأوسع على المجتمع ككل، وعبر التنافس في فضاء اجتماعي أرحب.

تعدد أنماط منظمات المجتمع المدني يُحدث التباساً في تحديد ماهية الجمعية، لكن صدور قانون الجمعيات الجديد رقم 51 لسنة 2008، قدّم تعريفاً موحداً للجمعية بوصفها أيّ شخص اعتباري مؤلف من مجموعة من الأشخاص يتم تسجيله وفقاً لأحكام قانون الجمعيات لتقديم خدمات أو القيام بأنشطة لا تستهدف الربح أو تحقيق أهداف سياسية. ورفع القانون الجديد العدد اللازم لتشكيل جمعية من 7 إلى 11 شخصاً.

معظم الجمعيات خيرية، تنضوي تحت راية الاتحاد العام للجمعيات الخيرية، الذي تشكل في العام 1959، وله فرع في سائر محافظات المملكة. تنقسم هذه الجمعيات المسجلة جميعها في وزارة التنمية الاجتماعية إلى قسمين؛ جمعيات "عامة" تنفذ أنشطة متنوعة، وجمعيات "متخصصة" تنفذ نشاطاً واحداً. أما بقية الجمعيات فهي تتبع لوزارات ذات صلة بنشاطها، مثل وزارة الثقافة والبيئة والداخلية.

وجود الجمعيات يعكس المراوحة بين التمثيلات الضيقة: العائلية والمناطقية، وبين التعامل مع المجتمع كوحدة متحدة، كما هو حال الجمعيات العامة والمتخصصة: الصحية والبيئية والإنسانية، وبين جمعيات تسهم في التنمية السياسية والاجتماعية مثل منظمات المجتمع المدني غير الحكومية. وإن كان نشوء هذه الجمعيات مجتمعة يعكس روح المبادرة، ويدلل على التنوع والتكافل متعدد الحلقات، الذي يسهم في دمج وحدات اجتماعية وفي التباعد بينها وبين وحدات أخرى ومع المجتمع ككل. كما نشأت تحديات جديدة يتعلق بعضها بتعدد مرجعيات الجمعيات، أو بتنظيم الدعم الحكومي لها، أو بتمويل وبرامج موحى بها من الخارج. فيما يتمحور جانب آخر من التحديات، في الهامشية ونقص الفاعلية والاكتفاء بحضور إعلامي أو المعاناة من تجاهل الإعلام لها، وتحول بعض الجمعيات إلى شلل من أصدقاء وأقارب.

الجمعية هي النموذج التاريخي الأرقى للعمل التطوعي والمدني، وهي تتشكل بالإرادة الطوعية الحرة لأعضائها، ما يميزها عن النقابات المهنية ذات العضوية الإلزامية، أو النقابات العمالية التي تتشكل لخدمة مصالح أعضائها، أو الأحزاب السياسية التي تشكل جزءاً من المجتمع المدني ما دامت خارج السلطة.

يتجاور القديم والحديث في صيرورة الجمعيات واستوائها، ثم في وظائفها في مجتمع يندفع للأخذ بأسباب الحداثة الاستهلاكية ومقتنياتها، ويتعلق شطر كبير منه بقديم العادات والأعراف المتعلقة بالتنظيم الاجتماعي، والسابقة على نشوء المدن والتجمعات الحضرية.

وتتجاور في الوقت نفسه الخدمات، وبعضها جليل وعظيم الفائدة، تؤديها العديد من الجمعيات وبتفاوت ما بينها، مع وجودها كبديل فعلي للتشكيلات الحديثة السياسية والتنموية، وهو ما يفسر الحضور المتزايد للجمعيات والروابط والدواوين في ظل انحسار مشهود للأحزاب، بينما تزدهر جمعيات ومنظمات تتدارك قصور الأحزاب في إدراك الحاجات المختلفة للمجتمع. لعل اللوم في هذا المجال لا يقع على الجمعيات بذاتها، بل على قوانين نافذة تضيق هامش الاجتماعات العامة والانضواء في الأحزاب وجمعيات سياسية، ما كرس في النتيجة ثقافة تنزع إلى "المحافظة" في قلب العاصمة والمدن، وفي صميم مرافق علمية وثقافية.

وككل عمل تطوعي، تحتاج الجمعيات (ما لا يقل عن 1800 جمعية) إلى موارد مالية تعينها على إدامة أنشطتها الاجتماعية والثقافية والتنموية، لا سيما أن الدور الملقى على عاتق هذه الجمعيات تضاعفَ عشرات المرات، في ظل الانسحاب المتزايد للدولة من الرعاية الاجتماعيةن ومع موجات الغلاء المستشرية.

تدرك الحكومات هذا التطور، وتسلّم بالدور التنموي المتنامي للجمعيات، إلا أنها تنتهج سياسية تقييدية سواء تجاه استقلالية الجمعيات أو تمويلها. وهو ما لا ينسجم مع أحكام الدستور التي تنص على الحق المطلق للمواطنين في إقامة جمعيات وأحزاب السياسية، ولم يضع الدستور أي قيود على هذا الحق ما عدا "أن تكون غايتها مشروعة ووسائلها سلمية وذات نظم لا تخالف أحكام الدستور"، وذهب الدستور أبعد من ذلك إلى تحديد وظيفة القانون، بتنظيم "طريقة تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية ومراقبة مواردها".

يتطلب تطوير العمل التطوعي بما يكفل استقلالية أدواته وإدامة أنشطته، الأخذ بقواعد حقوق الإنسان الناظمة لهذا العمل، ما يملي الاحتكام إلى الشفافية أداة رئيسية لضبط إيقاعه وفق محددات المصالح الوطنية.

أداة العمل التطوعي الحديث: دور الجمعيات التنموي مرهون باستقلاليتها وشفافيتها
 
27-Nov-2008
 
العدد 53