العدد 53 - أردني
 

نور العمد

الحطة والعقال، غطاء الرأس العربي الشهير في العالم كله، لم يعد مدعاة للانقسام في الأردن على قاعدة «إن لم تكن ترتدي لون حطتي فأنت ضدي!» فعلى غير العادة، بات ملاحظاً أن الحطات في المشهد الأردني تظهر بألوان عصرية غزت السوق المحلية بقوة أخيراً، فلا يكاد محل تجاري يخلو من حطات زاهية، بطيف لوني واسع: الفوشي، الأحمر، الأخضر، الأزرق، الزهري والبني. الحطات الجديدة عرضت على واجهات محلات تجارية، بطريقة تجذب انتباه المارة لشرائها وتزيين أعناقهم بها للحاق بخط جديد من الموضة العصرية.

هذه المشهدية اللونية الغنية، وجدها بعض الشبان فرصة للخروج من أسر اللونين؛ الأحمر والأسود، اللذين تحولا إلى إعلان عن المنابت والأصول الأردنية والفلسطينية، وهو ما سبب حساسيات وصلت حد العنف في بعض الأحيان. وربما كانت الرغبة في وضع حد لهذه الحساسيات، وراء انتشار ظاهرة الحطات الجديدة بألوانها المتعددة للتحرر من أسر اللونين.

ظهر ذلك جلياً لدى الفئة الشبابية في مجتمعنا، والتي تعتبر الأكثر إقبالاً على شراء هذا النوع من الحطات، كما أشار شبان وباعة للحطات الجديدة التقتهم «ے»، فالشبان يفضلونها لسببين، «أولهما: اتباعاً للموضة الدارجة، والثاني: للابتعاد عن إثارة النعرات بين الأردنيين من أصول شرق أردنية وأخرى فلسطينية»، كما ترى سناء، طالبة جامعية. تؤكد سناء أن هناك طلبة يرتدون هذا النوع الجديد من الحطات، للتخفيف من حدة الحساسيات بين الأردني والفلسطيني، ومنهم من يعتبرها نوعاً من الموضة الدارجة، «حيث تتضمن تجاوزاً لكلتا الهويتين، والتعبير بدلاً من ذلك عن هوية جديدة تجمعهما».

الطريف أن تمييز الهوية على أساس لون الحطة أمر مفتعل، فمن المعروف أن الحطة السوداء هي غطاء الرأس لدى العديد من الشعوب العربية، والحطة هي الكوفية التي استمدت اسمها من مدينة الكوفة العراقية حيث كانت تصنع. هناك إشارات إلى أنها تعود إلى الحضارة السومرية، حيث كان السومريون الذين احترفوا الصيد، يقومون بوضع خطوط سوداء متقاطعة فوق كوفياتهم، رمزاً إلى شباك الصيد.

عرفت الكوفية غطاء الرأس لدى شعوب عربية مثل: السوريين والعراقيين والخليجيين عموماً، ولشعوب غير عربية مثل الأكراد، لكن من دون العقال.

الأردنيون عرفوا الحطة ذات اللون الأحمر، أو الشماغ، في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، حين اتخذت غطاء الرأس لقوات البادية الأردنية، فيما استمرت الحطة السوداء غطاء الرأس للمواطن العادي في فصل الشتاء، والحطة البيضاء أو «القظاظة» في الصيف لتقي من يرتديها قيظ الصيف. وحتى اليوم، هناك في المخيمات الفلسطينية رجال يرتدون حطات حمراء اللون، وآخرون من أصول شرق أردنية في أماكن أخرى من البلاد يرتدون الحطة السوداء.

بعكس ذلك لم تكن الحطة السوداء غطاء الرأس لأهل فلسطين، باستثناء البدو، وبقي الأمر كذلك حتى اندلاع ثورة 1936. قبل ذلك كان غطاء الرأس لأهل المدن هو الطربوش التركي، أما أهل الريف فكان غطاء الرأس هو «الكفية»، وهو طربوش أحمر اللون تلف حوله قطعة قماش لونها مائل إلى الصفرة. وحين اندلعت ثورة العام 1936، ارتدى الثوار حطات سوداء غطوا بها وجوههم، حتى لا تتعرف سلطات الاحتلال عليهم، فبدأت هذه القوات في فرز الشعب الفلسطيني إلى مواطنين عاديين يرتدون الطربوش أو الكفية، وثوار يرتدون الحطة السوداء والعقال، وفي خطوة تهدف إلى حماية الثوار أصدرت قياداتهم نداء للفلسطينيين جميعا بارتداء الحطات السوداء لحماية الثوار، فاستجاب القسم الأعظم لارتدائها، ومنذ ذلك الحين والحطة السوداء مرتبطة بالفلسطينيين.

مع غياب الوعي بهذه الحقائق، القريبة زمنيا، وعلى خلفية حساسيات نشأت بين الأردنيين من شرق الأردن والأردنيين من أصول فلسطينية، تحول اللون إلى رمز، فأصبحت الحطة الحمراء رمزاً أردنياً والسوداء رمزاً فلسطينياً، وجرى تحميل هذه الرموز ما لا تحتمل من حساسيات مكرسة، جاءت الحطات الملونة أخيراً لتزيلها بالنسبة للبعض، واستخدامها كـ«موضة» بالنسبة للبعض الآخر.

محمود، 15 عاماً، الذي يزين عنقه بإحدى الحطات الملونة، لا يرى أنها بألوانها الجديدة تمثل «إلغاء للهوية الأصيلة لمن يلبسها، بل هي نوع من الموضة».

الشاب الجامعي عبد، اعتبر الحطات الجديدة نوعاً من «الغزو الثقافي»، مستبعداً أن تكون بديلاً عن الحطة الفلسطينية أو الأردنية، خصوصاً في الحرم الجامعي، حيث تكثر المشاكل التي تندرج في هذا الإطار، وهو يرى أن «هذه الحطات لا تخفف من هذه المشاكل، لأن الشخص ينظر إلى هوية الآخر وعائلته، وأنا لم أقتن مثل هذا النوع من الحطات لأنني اعتز بالحطة الفلسطينية».

«إلغاء التصنيف بين فلسطيني وأردني مستحيل، حتى لو تم تغيير ألوان الحطات»، يقول الطالب وليد، دون أن يحدد الجهة التي يتحدث عنها: «هم يريدون إلهاء الشعب عن هذا الموضوع، وهذا مستحيل. لن أشتري هذا النوع من الحطات فأنا أعتز بحطتي التي لدي!» والتي لم يشأ أن يذكر ما إذا كانت حمراء أو سوداء.

التجار لهم قول آخر؛ فالجهة التي يعتقدون أنها وراء انتشار الحطات الملونه هي: مسلسل باب الحارة، الذي ساهمت شخصياته التي ارتدتها بترويجها في المجتمع الأردني، كما يقول أبو عبد الله، التاجر في وسط البلد.

أبو عبد الله يبيع على بسطته بضائع مختلفة أبرزها الحطات الملونة، ويلاحظ أن هذا النوع من الحطات لم يلغ أيا من الهويتين الفلسطينية أو الأردنية، فهي في النهاية موضة درجت بعد أن تعرف المواطنون على حطة أبو العز البنية اللون في مسلسل باب الحارة. ويشرح: «هناك إقبال كبير عليها من قبل الشبان، ففي اليوم الواحد أبيع ما يقارب دزينتين، بثمن يراوح ما بين 3 و4 دنانير للحطة الواحدة، بحسب نوعها ومصدرها». وهو يؤكد أن الطلب ما زال مستمراً على الحطتين الفلسطينية والأردنية.

على خلاف الجيل القديم من رجال الأردن، فإن الجيل الجديد حمل لون الحطة بما لا تحتمل، حتى انقسم الأردنيون إلى مواطنين يرتدون كوفية حمراء وآخرين يرتدون الكوفية السوداء. وقد برزت محاولات عديدة من مختلف المستويات لإلغاء هذا التقسيم كان أبرزها ارتداء الملكة رانيا العبد الله، قبل سنوات، كوفية نصفها أحمر ونصفها الآخر أسود في رسالة للجيل الجديد بأن الأردن يحتمل اللونين معاً.

الأردنيون والفلسطينيون عرفوها في الثلاثينيات: حطات بألوان متعددة تربك حسابات المتعصبين للأحمر والأسود
 
27-Nov-2008
 
العدد 53