العدد 53 - بورتريه | ||||||||||||||
محمود الريماوي يكاد يكون نسيج وحدة في الحياة السياسية الأردنية. فطاهر المصري (66عاماً )يمثل نقطة التقاء بين الحكومات والمعارضة، بين الدبلوماسية والسياسة (عمل سفيراً في مدريد وباريس واليونسكو)، بين الأجيال والاتجاهات السياسية المتباعدة بما في ذلك بين رؤساء الحكومات السابقين، وهو أحدهم، كما هو همزة وصل بين مجلسي النواب والأعيان، وبين عرى الوحدة الوطنية الداخلية. لم يتأت ذلك لأبي نشأت بمحض المصادفة، أو لمجرد حسن الطالع. في واقع الأمر أن موهبته السياسية معطوفة على حنكته، تأتت من حسن قراءته للمعادلات الداخلية ولرؤيته لموقع الأردن في الإقليم، وإدراكه لطبيعة التحديات،إضافة الى مزاياه الشخصية في نظافة الكف والنأي عن التلون، رغم أن مسيرة حياته المهنية والعلمية لم تكن تقوده في بداياتها إلى ما انتهى إليه. فقد درس الأعمال في الولايات المتحدة (رفض أن يتلقى دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت.. أقاربي الدارسون في أميركا ليسوا أفضل مني، كما قال لأبيه حينها!) بعد تخرجه التحق بالبنك المركزي العام 1965. على أن الموقع العائلي أسهم لا ريب في لفت الأنظار إلى الشاب طاهر، وحيث تتحدر النخب السياسية من عائلات كبيرة أولاً على ضفتي النهر. فهو سليل آل المصري كبار التجار في نابلس، ممن ارتبطوا بعلاقات وثيقة بالقيادة الهاشمية منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي. يذكر أبو نشأت في مقابلة معه، أن الملك عبدالله المؤسس كان يواظب على زيارة بيت جده معزوز المصري في نابلس. وأنه قصد الأقصى ذات يوم جمعة في العشرين من تموز العام 1951 ليلقى وجه ربه في جريمة اغتيال كان حفيده الراحل الحسين شاهد عيان عليها، وكان الحاج معزوز ألح عليه بأداء الصلاة في نابلس ذلك اليوم، فسمع منه عبارة «.. إلا الأقصى». بعد ثماني سنوات على عمله في البنك المركزي، بدأت مسيرة أبي نشأت السياسية بصورة متسارعة، بانتخابه من قبل مجلس النواب عضواً في المجلس عام 1973، لكنه لم يلبث أن عين وزير دولة لشؤون الأرض المحتلة في حكومة زيد الرفاعي الأولى. التحق بعدها سفيراً بوزارة الخارجية لعقد كامل من الزمن. عاد بعدها ليتقلد وزارة الخارجية في حكومة أحمد عبيدات، ثم عاد رئيساً للدبلوماسية الأردنية في حكومة زيد الرفاعي الرابعة، ليستقيل منها في العام 1988 على خلفية موقفه الرافض لفك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية، كما ذكر في برنامج «مقابلة خاصة» مع قناة الجزيرة. صعود المصري هو أحد تجليات وحدة الضفتين.وهو من أنصار هذه الوحدة ومن أشد المتحمسين لها، ويرى فيها رداً على اتفاقية سايكس بيكو التقسيمية. على أن الرجل أخذ علماً بالتطورات الجارية.فهو يؤمن بأن شكلاً من أشكال التوحد سوف يقوم مجدداً، ليس مع مسمى الضفة الغربية، بل مع دولة فلسطينية مستقلة، يرى قيامها شرطاً ومقدمة لذلك التوحد. تولى بعدئذ موقع نائب رئيس الوزراء وزير دولة للشؤون الاقتصادية في حكومة الشريف الأمير زيد بن شاكر في العام 1989. تلك الفترة كانت تمور بتطلعات وانفعالات استئناف الحياة الديمقراطية. كان المصري في مقدمة المؤمنين بأن ما جرى نقطة تحول تستحق تقنينها والذهاب بها الى نهايتها. وقد اختير عضواً ومقرراً للجنة الملكية لـ«الميثاق الوطني» التي صاغت إحدى أهم وثيقتين للإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، وبعد خمسة عشر عاماً كان على رأس أعضاء لجنة الأجندة الوطنية التي خرجت بالوثيقة الثانية ذات الأهمية الاستراتيجية. وبدأ مطلع التسعينيات مع أحمد عبيدات في التفكير بإنشاء تيار سياسي شبه حزبي، لكن الرجلين لم يلبثا أن أقلعا عن الفكرة. فالحضور الشخصي لكليهما في الحياة العامة أكبر ويفيض عن الإنضواء في تيار بعينه. بعد عامين عَبَرَ أبو نشأت مرحلة مفصلية في حياته السياسية بتشكيله حكومة ضمت رئيسي وزراء لاحقين هما: عبدالكريم الكباريتي، وعلي أبو الراغب. وضمت إلى ذلك وزراء ينتمون للتيار القومي هم: محمد الحموري، وسليم الزعبي، ومحمد فارس الطراونة. بعد أقل من أربعة أشهر استقال الوزراء الثلاثة، على خلفية ما اعتبروه نهج التسوية والتفاوض الذي ستمضي فيه حكومة المصري. وكأن نهج التسوية والتفاوض كان مستحدثاً وطارئاً في النهج الرسمي. لم تعمر الحكومة سوى خمسة أشهر، وذلك تحت ضغوط مذكرة نيابية كان للإسلاميين في المجلس دور بارز في إعدادها. وقد تردد حينها أنه كانت هناك أفكار لحل المجلس النيابي، وهي فكرة كما قيل رفضها المصري حينها. أبو نشأت اقتحم الحياة النيابية بقوة، فقد فاز في الانتخابات الأكثر سخونة العام 1989، ثم في انتخابات المجلس الثاني عشر بموجب قانون الصوت الواحد العام 1993 بعد مغادرته الدوار الرابع، فاز فيها وانتخب رئيساً لمجلس النواب لدورة واحدة، وفي المرتين تولى رئاسة لجنة الشؤون الخارجية في المجلس. في هذه المحطات لمع نجم الرجل، في مواءمته بين كونه رجل دولة وشخصية سياسية مستقلة، وبين كفاءته في تناول القضايا المطروحة في المجلس، مع احتفاظه بخطوط مفتوحة مع القوى الحزبية والنقابية وممثلي وسائل الإعلام وفي ما تمتع به على الدوام من حس نقدي ومسؤول. فقد ظل يدعو دائماً للموازاة بين الأمن والإصلاح، وتوسيع مفهوم الأمن ليشمل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحريات السياسية بوصفه صمام أمان، لا الاكتفاء بالمنظور الأمني السياسي والجنائي. سوى ذلك نشط أبو نشأت، وما زال، في العديد من المؤسسات والجمعيات، فقد ترأس مجلس أمناء جامعة العلوم والتكنولوجيا، الهيئة الإدارية للجمعية الوطنية للحرية والنهج الديمقراطي (جند)، الهيئة الإدارية لجمعية حماية القدس الشريف، جمعية الصداقة الأردنية الإسبانية، ومجلس إدارة مركز هيا الثقافي. وفي غمرة هذا النشاط الجم، لم يغب عن المنابر والمنتديات والمؤتمرات راعياً ومترئساً ومتحدثاً، وشارك في التوقيع على بيانات سياسية إلى جانب حزبيين وأشخاص مستقلين، كما لم تفتقد الجاهات في ربوع المملكة الرجل العصري الأنيق. كان أبو نشأت، وما زال، يجد متسعاً من الوقت لمثل هذه «الواجبات الاجتماعية». في رأي رئيس وزراء آخر هو: علي أبو الراغب، أن هذه الواجبات تستنزف طاقة السياسيين. الى جانب ذلك وفي العام 2002 تم اختيار طاهر المصري مفوضاً للمجتمع المدني في الجامعة العربية. وهو منصب جديد في الجامعة، وإن لم تكن هناك نتائج ملموسة للإدارة المستحدثة التي شكلت غطاء ومرجعية تنسيقية، لشبكات المجتمع المدني المستقلة عن الحكومات. قبل أيام حل أبو نشأت في نابلس، مشاركاً في مؤتمر فلسطين للاستثمار «ملتقى الشمال». بدا وقد غمرته السعادة لعقد المؤتمر في مدينته ومسقط رأسه.. يُذكر أن مدينة «جبل النار» شهدت منذ مطلع الألفية الثالثة، حملات شرسة ودموية من قوات الاحتلال، استهدفت إضافة الى الناشطين تقويض اقتصاد المدينة، التي تعتبر عاصمة اقتصادية للضفة الغربية، ومحاولة تدمير معالم المدينة القديمة. ينشط أبو نشأت على جبهات عدة في أماكن شتى، متمتعاً بقدرة تنظيمية هائلة على تنظيم وقته وارتباطاته، والإعداد لها، محتفظاً ببشاشته وبسمت ونضارة الشباب (لا يدخن، لا يفرط في السهر) ونضج المكتهلين. مع عطائه الموصول منذ ثلاثة عقود ونصف العقد، فالرجل في أوج حيويته (امسكوا الخشب..) وما زال يشكل ضمانة وظهيراً قوياً لمسيرة الديمقراطية والإصلاح. |
|
|||||||||||||