العدد 53 - ثقافي | ||||||||||||||
نادر رنتيسي منذ سبعة أعوام والمغنّي العراقي كاظم الساهر يحاول استعادة تجربته الفنية التي بدأت في العام 1985، بقوة وصلت ذروتها منتصف التسعينيات. في العام 2001 أصدر الساهر أسطوانته «أبحث عنك»، ورغم الهالة الإعلامية التي رافقتها، بل وقيامه للمرة الأولى بحفلات توقيع في غير مدينة عربية، إلا أن الألبوم فشل تجارياً. أقر الساهر بذلك الفشل، وردّه إلى أن قصيدة نزار قباني التي تضمنها الألبوم «كل عام وأنت حبيبتي» لم تكن «درامية» على غرار قصائد سابقة. بيد أن المؤشر لم يتصاعد في محاولاته اللاحقة، في ستة ألبومات، أسرف خلالها في تقديم قصائد قباني، إلى جانب أخريات لأحمد شوقي، ومانع سعيد العتيبة، وفاروق جويدة. راح يستحضر، كما في ألبومه الأخير «صور»، تجاربه السابقة، والألوان الغنائية المتعددة التي قدمها سابقا و«ضربت» بمصطلح سوق الكاسيت، فمال كثيراً إلى الغناء الخليجي، وحافظ على الأغنية الشعبية، والخفيفة. أمعن كثيراً في استحضار نزار قباني، محاولاً تكرار تجربة «زيديني عشقاً» و«إني خيّرتك» حين كان محور سجال في حروب قبّاني مع عبد الوهّاب البياتي الذي اتخذ أغنيات الساهر مثالاً على بؤس مفردة نزار، لكنه استدرك بالقول إنّ الساهر استطاع بموسيقاه، وحسْب، تحويل المعدن الخسيس إلى ذهب. إلا أن الشريط الفني للساهر يعود إلى أبعد من ذلك. انطلاقته الحقيقية، بدأت بأغنية «عبرت الشط» بعد جملة من أغاني محلية، ضمّها شريطه «يا شجرة الزيتون»، التي لم تفك إسار محليّتها إلا بعد بضع سنوات، مع شهرة الساهر التي طرقت أرجاء المعمورة. الأغنية التي لا تخرج عن سياق مثيلاتها العربية في استلذاذها المازوخي، سوى أنها كانت قراءة لمستقبل الساهر الذي ذهب بعيداً، في ما بعد، من «الشط» إلى «البحر» فـ«المحيط»، من دون أن يضطرّه ذلك أن «يشهق أنفاسه» بقوّة مضاعفة. أدرك كاظم مبكراً أن وطنه عاجز عن الصعود به في سماء النجومية .العراق منزوٍ ومحاصَر، وربّما كان لمحاسن الصدف أن يغني قبل أشهر قليلة من أزمة الخليج أغنية «العزيز» التي تحرّق فيها ألماً، في استثمار مبكّر لوجع بلاده، على صديقه في الجندية الذي فقده في حرب الخليج الأولى. لعلّ موّال الأغنية نفسها، الذي يتكسّر فيه حيرة بين الثلج والنار، كان توطئة ذكية لخيار الثلج الذي سيذوب لاحقاً، ويكشف عن مرج أخضر يصلح لفيديو كليب مع شقراء في أغنية تستجدي دائماً رضا المحبوب. كانت محطته الأولى في الكويت التي لم تلبث أن أصبحت قِبلته المغلقة، إثر تداعيات الغزو. بعدها صار «الحصار» تجارة الصيف والشتاء له؛ رحّال مهرته جرح في سفر طويل، كانت عمّان أوّل مفاصله، بداية التسعينيات، وآخر حنينه إلى بغداد وشكواه من حرمان الدنيا له من أهله، في موّاله الشهير الذي شداه في قصر الثقافة بحفل جماهيري وبإحساس لم يُحسن تكراره. في بيروت أصبحت بغداد مجازاً، حبيبة يُداريها غناءً على شط «جونيه» مساءً، قبل أن يجهر، وضح النهار، بخفة روحه تجاه الحلوة التي درجت إلى البحر تتشمّس، مقابل خفة موسيقية جعلت مظفر النوّاب يتساءل باستنكار عن ماهيّة «المطرب العراقي». فُتحت بعد ذلك الأبواب الكهربائية في مطارات العالم في وجه الساهر، تحديداً مع تنامي شعبيّته التي صار يردّها صحفيّون إلى سحر مركّب في فنّ كاظم، الذي أنشأ مؤسسة شعرية شعبية متنقلة تعلّق محاصيلها على أوتار عوده لفرزها حسب متطلبات سوق الكاسيت. وغدا بين ليلة وضحاها «قيصر الأغنية العربية». ظلت القاهرة محجّ عينيه الموصد، راح يغني على أطرافها من العواصم رائعة محمد عبد الوهاب «بفكر في اللي ناسيني»، وكان يدرك أنها اختبار صعب لدهائه، فآثر أن ينحني لجلال أمّ كلثوم، وذاب حنيناً إلى حواري محفوظ، مكابراً على ألمه من مصائد زملاء المهنة هناك، تغافل عنها بأن بدأ مرحلة ذهبية في تاريخه الفني عبر أدائه توليفة شعبية وفصيحة أشّرت على بداية دخوله عصر العمالقة من «مدرسة الحب». وصل مجد الساهر ذروته مع أغنيته «أنا وليلى» فهي قمة هبط عنها ولم يفلح صعوداً إليها مرة أخرى. أكثر من مرة قال إنه ملّ غناءها على المسرح، بيد أن جمهور حفلاته، التي ما زالت تلقى إقبالاً جماهيرياً، وجعلته مطرب مهرجانات بامتياز، يطلبها باستمرار. قبل عامين في مهرجان جرش ، جاء الساهر محضّراً أغنيات ألبومه الجديد آنذاك «يوميات رجل مهزوم»، قدمها واحدة تلو الأخرى، والجمهور يصفق مستعجلاً أن يغنّي «ليلى». مشى على المسرح خطوات ثقيلة ضاحكاً، قبل أن يشير للفرقة أن تشرع بعزف موسيقاها. قال إنه لحّن أغنية أخرى لشاعر «أنا وليلى» حسن المرواني، وإنه ينتظر الوقت المناسب لطرحها، وثمة أغنية على غرارها تحمل اسم «العدل» كتبها الشاعر العراقي أسعد الغريري، كاتب أغنيته الشهيرة «استعجلت الرحيلا». وينوي أيضاً إشهار مشروعه « الضخم» في العام 2010 «ملحمة جلجامش» التي كتبها شعراً «تعويذة نجاحه» الشاعر كرم العراقي. كان قبل ذلك أشار إلى أنه قد يعتزل الغناء فور إطلاقها. في محاولاته يسعى الساهر أن يعود إلى الشط الذي أضلّه، ويختصر طريق ذهابٍ عمره 23 عاماً، في أغنية تعيد الهواء إلى دمه بعد أن بالغ بشهق أنفاسه، حين صار الشط عميقاً. |
|
|||||||||||||