العدد 53 - ثقافي | ||||||||||||||
عواد علي تنشأ الكوميديا في المسرح، حسب رأي وولفغانغ آيزر (أحد منظّري جمالية التلقي في ألمانيا)، من مواقف تنطوي على تعارض ومفارقات، ولا تنتهي بحسم الصراع إلى غالب ومغلوب، بل تنتج عنها سلسلة من الخسائر. هكذا يتولد عدم اتزان يشوب عالم الأحداث المسرحية، وينتقل هذا الإحساس إلى المتلقي مولّداً إرباكاً لملكاته العاطفية والمعرفية. الضحك يحدث، لا عن عدم الاتزان هذا فحسب، بل نتيجةً لعملية الإرباك أيضاً، وبذلك يتحول الضحك هنا إلى واحدة من آليات الدفاع. لكن ماذا يحدث لو تخلى العرض الكوميدي عن طبيعته الفكاهية غير الجادّة المعلنة، أو أزاحها جانباً؟ وما الذي ينتج لو تحول العرض فجأةً إلى الجدّية مرةً أخرى في اللحظة نفسها التي أدرك فيها المتلقي أن عدم الجدية هو وسيلته لتحرير الذات من قيودها؟ يجيب آيزر عن ذلك، في ضوء دراسته لمسرح صموئيل بيكيت، بأنه في مثل هذه الحالات يصعب علينا تجنب التوتر، ويموت الضحك على شفاهنا. إلاّ إنه ربما غاب عن آيزر، حين جعل "التعارض" السمةَ الأساسية للكوميديا، أن المواقف التي تنطوي على تعارض في الدراما ليست حكراً على الكوميديا، بل هي أكثر تجلياً في التراجيديا، فأين نجد مواقف تتعارض فيها طبائع الشخصيات ورؤاها وأفكارها وأهواؤها، وتتقاطع مصائرها وتوجهاتها وخياراتها أعمق مما نجده في تراجيديات مثل: "أوديب ملكاً"، و"أنتيغونا"، و"هاملت"، و"الملك لير"، و"ماكبث"؟ كما أن الجزم بأن الكوميديا تنتج عنها سلسلة من الخسائر ليس صحيحاً في جميع الأحوال، فالفعل الدرامي فيها قد يقوم على تخطي سلسلة عقبات لا تفضي إلى خسائر، بل إلى تسويات تكون الخاتمة فيها سعيدة. وإذا كان بعض أنماط الكوميديا تنتج عنه خسائر ما، كالكوميديا السوداء في كثير من مسرحيات تيار العبث، التي اختار آيزر منها أنموذجه في التحليل، فإن ذلك لا ينطبق على جميع أنماط الكوميديا. يستخدم آيزر مصطلح "الوظائف السالبة"، الذي اجترحه الناقد الروسي يوري لوتمان، ليصف مسرحية بيكيت "في انتظار غودو" بأنها سلسلة من هذه الوظائف، وهو يعني بذلك أن مكونات المسرحية تحبط أي توقعات تقليدية للمتلقين، ويتوالى ضحكهم لإحساسهم بالاستعلاء والتفوق على الشخصيات التي لا تجد شيئاً تفعله منذ البداية. لكن هذه الضحكات قصيرةُ المدى، إذ لا تلبث المسرحية أن تصيب المتلقين بمس كهربائي يقطع تيار الضحك حينما تناقض المعاني التي استخلصوها، أوتنفيها. تحيل فكرة آيزر عن إحساس المتلقين بالاستعلاء، والتفوق على الشخصيات، على فكرة الناقد الكندي نورثروب فراي، القائلة إن المشاهد في الكوميديا يرتفع فوق مستوى الفعل، ويراه من وجهة نظر عالم أعلى وأنظم، وهي الفكرة نفسها التي يأخذ بها الناقد المسرحي الفرنسي باتريس بافيس. الباحثة المسرحية الكندية سوزان بينيت، تصف تفسير آيزر للبنى الدرامية على أساس أنها أنظمة تتسم بعدم التحقق (أو باستخدام تعبير لوتمان: أنظمة ذات وظائف سالبة)، بأنه تفسير ساذج، معللةً ذلك بأن الجمهور ربما لم يكن في البداية معتاداً على مسرح العبث، كما قدمه بيكيت، ومن ثم اتسمت ردود أفعاله بالحيرة والتشوش، ولكن من المؤكد أنه بعد ظهور كتاب مارتن أسلن (الناقد المسرحي البريطاني) عن مسرح العبث 1961، بل والأهم من ذلك، بعد توافر فرصة مشاهدة مسرحيات من نمط مسرحيات بيكيت، أصبحت المسرحيات العبثية مقبولةً ومتوقعةً. مثلما يقوم المتلقي، من وجهة نظر آيزر، بعملية تشكيل معنى الأحداث في مسرحية "في انتظار غودو"، فإنه يقوم في مسرحية "لعبة النهاية" للكاتب نفسه، بعملية أداء تفرضها اللغة، الأمر الذي ينتج عنه أن يأخذ في هذه المسرحية مكان أبطال المسرحية السابقة، فيلعب دورَي "فلاديمير" و"استراجون". كما ينتج عن ذلك وضع المتلقي في موقع منفصل عن الأحداث يمكنه من أن يرى نفسه كلاعب لشخصية كوميدية، وهو دور تدفعه إلى القيام به خبراته السابقة في المشاهدة. وهكذا يصبح المتلقي، وفق هذا التصور، منتجاً ومتلقياً للدراما في الوقت نفسه، ويتيح للنص إمكانية إيصال فكرة الشخصية المقلقة، التي تفتقد إلى المركز والوحدة، وذلك من خلال تجربة ذاتية يعايشها المتلقي في صورة مشروعات لبناء المعنى، لا تلبث أن تتخلق حتى تُطرح جانباً بشكل مستمر. يمكن الاستنتاج من ذلك أن مسرحيات بيكيت تقوم دائماً على إحباط توقعات المتلقي، لذا يمكن وصفها بأنها تتبنى دائماً اتجاهاً مخالفاً للنظر إلى الجمهور بوصفه "جماعةً تأويلية". هذا التصور يستهدي بالمبدأ الظاهراتي الذي يعتقدبأن المتلقي يُدخل النص إلى شعوره، ويجعل منه تجربته الخاصة، إلاّ أنه يستثير ملاحظةً جوهريةً هي أن انفصال المتلقي عن الأحداث، وهو مفهوم مركزي عند بريخت، يعني وضع مسافة بينه وبين ما يُقدم على الخشبة تحول دون تماهيه مع العناصر السمعية والبصرية التي تشكل عالمها، وتسمح له بمراقبتها ومساءلتها واتخاذ موقف منها، وليس العكس، أي الاندماج معها، ورؤية نفسه كمؤدٍّ لإحدى الشخصيات على الخشبة، وبخاصة المتلقي الذي يمتلك خبرات سابقةً في المشاهدة. بيد أن آيزر يناقض نفسه هنا، فهو القائل إن القارئ، أو المتلقي، يشكل موضوعات «متخيلةً» في ذهنه على أساس فرضية «أفق التوقع»، وتكون هذه الموضوعات عرضةً للتعديل، أو التكييف، بل سلسلةً متواصلةً من التعديلات: "نحن نحمل في أذهاننا بعض التوقعات القائمة على ما نذكره عن الشخصيات والأحداث، غير أن التوقعات يجري تعديلها باستمرار، وما نذكره يجري تحويله كلما مضينا في قراءة النص". إن عملية التعديل هنا نابعة من موقف نقدي، ومساءلة للشخصيات والأحداث، ورفض لبعض المعايير التي تتبناها أو تقوم عليها، ومحاكمتها، واقتراح بديل عنها، فكيف يستقيم ذلك مع رؤية المتلقي نفسه لاعباً لشخصية ما؟ ربما في حال واحدة فقط، هي تماهيه معها بعد أن أجرى عليها تعديلاً في ذهنه، وكيّفها مع أنموذجه الذي رسمه لها في مخيلته. مما يؤخذ على تحليل آيزر، أيضاً، أنه اعتمد على قراءة نصوص بيكيت، ولم يأخذ في الحسبان العروض المسرحية لهذه النصوص، وهو القائل في كتابه "فعل القراءة"، إن القراءة تختلف عن كل أشكال التفاعل الاجتماعي الأخرى، لأنها عملية تخلو من موقف اللقاء وجهاً لوجه مع آخر، أما المسرح فينهض على لقاء المؤدين بالمتلقين وجهاً لوجه، في موقف يزيد من تعقيده وجود دوالّ مادية ملموسة على خشبة المسرح (وإن تناقصت إلى حد العدم في مسرح بيكيت)، ولهذا يختلف نظام الاستجابة في المسرح عنه في عملية القراءة. |
|
|||||||||||||