العدد 53 - حتى باب الدار
 

يشكو باحثون ومثقفون مما يسمنوه «ترييف المدينة» أي طغيان العناصر الريفية على المدنية، وبخاصة في ميدان السلوك الاجتماعي للسكان.

أدعو إلى شيء من التصالح مع الظاهرة، فربما يكون ما يجري نوعاً من تشكيل فلكلور شعبي مدني جديد، قائم على أساس أن ما نعتبره الآن مظاهر خلل، يمكن أن يصبح تراثاً للأجيال «ما بعد القادمة» تستمتع به وتذْكُرْنا بالخير بسببه. ينتقل شخص إلى السكن في المدينة –عمان مثلاً- وقد يكون قادما من حي آخر فيها او من مدينة أو قرية أخرى. وفي العادة يتطوع ساكن قديم أو أكثر، لتوضيح الموقف للقادم الجديد.

الباب بالباب

اسمحوا لي بذكر جانب من التجربة الذاتية:

فما زلت أشعر بامتنان كبير نحو جاري «الباب بالباب»، بسبب الزيارة التي خصني بها عندما انتقلت للسكن في الشقة المقابلة لشقته، فقد قدّم لي بانوراما اجتماعية عن الحي وسكانه وعادات الأزواج والزوجات وأيهم «محكوم» من قبل زوجته، وأيهم زوجته لا تستطيع أن «تَبْغَم» بحضوره ولكن لسانها «يصبح شبرين» في غيابه، ومَن مِنهم «كبّاب شر»، ومن منهم يعيش «بحاله»، وأيهم «مش ولا بد» وأيهم «هَهْ وهَهْ»، وأيهم مزاجي، وأيهم يا محلاه عندما تكون جيبتة عمرانة، وأيهم «حيّة تبن» يقرص ثم يختبئ، وأيهم إذا رأيته في شارع اتركه واذهب إلى الشارع الثاني.

وهي معلومات مكنتني من حسن التواؤم مع المحيط الجديد، وساهمت في تقليل عنصر المخاطرة الاجتماعية، وقلصت الزمن اللازم للانخراط في الحي السكني، وحسنت من إمكانياتي للاندماج في النمط السائد قبل تشريفي.

طقوس ما بعد السكن

بعد اتمام إجراءات السكن، تبدأ مستويات اكتمال الفلكور الشعبي الجديد.. «وطّو صوتكو حتى لا يسمعوكو الجيران».. أو فعل الأمر المقصود به ضده: «سمّع سمّع علّي صوتك كمان»، أو بالمقابل نداءات: «وطّوا التلفزيون حتى نسمع شو صاير عند الجيران» أو القيام بزيارة طارئة للجار الأقرب للذين حصلت المشكلة في بيوتهم.

تفاصيل البناء ومكوناته تصبح أدوات ووسائل لممارسة الفلكلور المدني، فالفرندة المزججة تتحول إلى غرفة مراقبة، وقد يحتج جيران على جلوس آخر أوقات طويلة في فرندته. «فنحن أيضاً نريد أن نجلس على برندتنا»، وبكل الأحوال فإن الزجاج الملون يبقى مفضلاً، لأنه يمكنك من كشف كل ما هو حولك حتى لو كنت «مزلطا».

أما الأمور التي تتطلب إقامة علاقات مشتركة مثل الدرج وأجرة الحارس وخلافه، فإنها تكون أيضاً ميداناً لمشاكل من نوع جديد، «مش جاية من ليرة وثنتين».. ولكن يسبق ذلك تبادل العبارة المملة الشهيرة في عمان، وبخاصة: «صباح الخير جار» التي تقال بنبرة خاصة متفق عليها ترافقها ابتسامة عريضة حمـّالة أوجه، وسوف يحرص الجميع على الاستفسار من الحارس عمن «دفع له ومن لم يدفع»، وحينها تسود روح «المغالبة» بين الأطراف، فإذا دفع أحد فأنا «سأدفع قبله وأكثر منه»، وإذا لم يدفع «فأنا لست أقل منه ولن أدفع».

كما تلاحظون لا داعي للقلق على المدينة، تكفي إعادة تعريف الأشياء والتصالح معها.

فلكلور شعبي “مدني”
 
27-Nov-2008
 
العدد 53