العدد 52 - كتاب | ||||||||||||||
ازدادت في الآونة الأخيرة المضايقات على توزيع الكتاب ونشره ،بعد إلغاء الرقابة المسبقة على المخطوطات من دائرة المطبوعات والنشر، والاكتفاء بالحصول على رقم إيداع للمخطوط قبل النشر من المكتبة الوطنية؛ فأصبح المرء يسمع عن حجز كتب، واتهام أدباء بالخروج على الدين، والدعوة إلى محاكمتهم وحرق مؤلفاتهم ومصادرتها، كما مُنعت كتب طُبعت في الخارج لمؤلفين أردنيين، من دخول الأردن والتوزيع فيه. معظم هذه المضايقات كان يستند إلى وجود تناصات من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف، في أعمال شعرية وسردية، ووصل الأمر حدَّ اتهام كتّاب بالكفر والخروج من الملة، وتحويل نصوصهم للمفتي. يغيب عن ذهن الذين يتصدّون للأدب، ويحاكمونه ، أن طبيعة الأدب ليست دينية أو أخلاقية. إنّه ذو طبيعة جمالية بحتة، وبجانبه النجاح والتميز إذا استحال إلى نص إرشادي أو وعظي؛ فالأديب ، وقد أدرك أجدادنا ذلك عندما قالوا: «أعذب الشعر أكذبه»، ونحن نرى أن معظم الشعراء المتميزين من أجدادنا ،كانت لهم تلك الشطحات الجمالية التي يدعوها رجال دين وكتاب متزمتون في أيامنا «انحرافاً عن الدين». على سبيل المثال، كان الشاعر كعب بن زهير في قصيدته المشهورة «البردة»، يمدح الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مظهرا إياه وكأنه شيخ قبيلة أو أسد مفترس. لقد أدرك الرسول ذلك، لكنه لم يغضب أو يُسكت الشاعر، بل كافأه بمنحه بردته، فقد حاكم قصيدته حسب موضوعها العام من ناحية، وقيمتها الجمالية من ناحية أخرى. وهذا المتنبي شاعر العربية الأول يمدح سيف الدولة الحمداني بقصائد كثيرة يغالي فيها بمدحه، ويذهب به الشطط إلى أن يقول: «تظل ملوك الأرض خاشعة له / تفارقه هلكى وتلقاه سجدا». سيف الدولة لم يكفّر المتنبي، بل أَجزل له العطاء عندما قال المتنبي مادحاً: «ما شئت لا ما شاءت الأقدار / فاحكم فأنت الواحد القهار». محاكمة الأدب محاكمة متزمتة غير متسامحة مع الأدباء والشعراء، تعني عملية «هولوكوست» يتم فيها حرق قسم كبير من تراثنا الأدبي ،بدءاً من الجاحظ وأبي نواس والمعري، وانتهاءً بدرويش وأدونيس ومظفر النواب ونزار قباني. كذلك علينا أن نحرق الشعر الصوفي برمته، لأنه يذهب في شطحاته وحدساته وإشراقاته إلى الاندماج بالذات الإلهية. الأدب بعامة والشعر بخاصة لا يحاكمه إلاّ نقاد وأدباء، للوصول إلى جمالياته وقيمه الشعورية والمعنوية التي يكمن فيها نجاحه أو إخفاقه. تدخل سلطات روحية أو سياسية لقمع الكاتب وقتل الكتاب يثير قلقاً لدى المبدع، ولا يساعده على تجويد ما يكتب، وهو بدلاً من ذلك يوجه جهده للتملص من الرقابة الاجتماعية والسياسية، كما أن سيف الرقابة المسلط عليه لا يساعده حتى على الحياة العادية؛ فالإبداع لا يمكن أن يزهو إلاّ في جو من الحرية والديمقراطية. نتمنى في الأردن أن يتحقق شعار «من المطار إلى السوق»، وأن تستمر دوائر معنية بالكتاب ومؤسسات ارشادية بالنأي عن التدخل في حركة التأليف والنشر، حتى لا يبلغ بنا الأمر أن نتحسر على الأيام التي كانت تخضع فيها المخطوطات قبل النشر لرقابة دائرة المطبوعات؛ فكثيراً من المخطوطات وُوفق على نشرها رغم اشتمالها على ما يسميه بعضهم «خروقات أخلاقية ودينية».. الأجدى أن يُترك الكتاب للقارئ، فهو الوحيد الذي يحق له أن يقبله بالإقبال على قراءته أو رفضه، ولعلّ كثيراً من الكتب في عالمنا العربي والإسلامي انتشرت، ليس بسبب قيمتها الفكرية والجمالية، بل لتدخل الرقابة وتزمتها تارة بالمنع وتارة بالمصادرة والمحاكمة، حتى إنّ ضعاف الكتاب يتعمدون استفزاز رجال دين وسلطة ليلفتوا النظر إلى أعمالهم، وللأسف هناك كتب كثيرة تافهة انتشرت بهذه الطريقة. الأدب لا تحاكمه لا نقابة محامين ، وإنما نقاد يبحثون عما يتوافر - أو لا يتوافر فيه من قيم جمالية. |
|
|||||||||||||