العدد 52 - ثقافي | ||||||||||||||
معن البياري حدث أن كاتب السطور التالية سأل قبل نحو عامين في جناح دار الساقي في معرض للكتاب في عاصمة عربية، عن نسخة من كتاب نذير رشيد «مذكراتي.. حساب السرايا وحساب القرايا»، وكانت الدار قد أصدرته، فكان الجواب أن «الساقي» لم تعدْ تعدّ نفسها أنها نشرت الكتاب، فقد «فرمت» ما لديها من نسخه، لما أثاره المسؤول الأردني الأسبق من غضب أناسٍ هدّدوا برفع قضايا، ورأت أنها -دفعاً لوجع الرأس- من الأسلم أن تبادر إلى ما قامت به. المعلوم أن الكتاب، بمقدمته للرئيس الأسبق للديوان الملكي والرئيس الحالي للجامعة الأردنية خالد الكركي، تمّ منعه في السوق المحلية، وإنْ تمكّن مهتمون من توفير نسخ منه فقرأوه، ومنهم صاحب هذه السطور الذي تابع ربّما في الأسابيع الماضية حلقات «شاهد على العصر» مع نذير رشيد، على شاشة قناة «الجزيرة». في حلقات البرنامج التسع، أفاض الوزير والعين ومدير المخابرات والضابط الرفيع الأسبق في الجيش، في سرد تفاصيل مسار حياته الشخصية والمهنية، في وقائع كان شريكا في القرار بشأنها، أو شاهدا عليها. وبدا في حلقة تواصل مع الجمهور، تالية لمحاورات أحمد منصور معه، أن الغضب مما قاله نذير رشيد كثير، وقد جاء فيه على حوادث، خالف فيها شهودا آخرين، وأدلى في الأثناء بمواقف وآراء توافرت على مقادير ليست هيّنة من الاستفزاز. ليس انتصارا لنذير رشيد أبدا، ولا اتفاقا معه في بعض آرائه، بوليسية النزعة، ولا تسليماً بصدقية كاملة لعدد من مروياته بشأن محطات زمنية. وليس من باب القبول بما خالف فيه وثائق ومذكرات غير قليلة، تعود إحداها إلى الملك الحسين رحمه الله.. ليس لشيء من هذا أو بعضه، تذهب هذه السطور إلى التثنية على ما بادر إليه، حين روى شهادته ودوّنها، وكتب ما يراها حقائق قال إنه عاينها بنفسه. لأن مدير المخابرات الأسبق في هذا الأمر، من دون قصد منه ربما، يحرّض على النبش في الوثيقة التاريخية، ويحثّ على التدقيق في وقائع أردنية في العقود الخمسة الماضية، ويتيح للاختلاف أو الاتفاق معه مساحات واسعة وأخرى ضيّقة. والأهم أن المسؤول الأمني الأسبق، والعسكري البارز، يتحدث عن الذي يتحدث فيه، من دون تحفظات ولا حسابات أو مسايرات، وعلى الشهود الآخرين أن يجادلوا أو يصححوا أو يتفقوا. يُقال هذا هنا، وإن كان من العصيّ القبول بأنّ تعذيبا لم يحدث لمحتجزين في مقر رئاسة المخابرات العامة ومراكز الأمن في أثناء صدامات 1970 و1971 وما بعدها.. وحتى لو لم يوفر نذير رشيد (ولا غيره) تفسيرا مقنعا لمنحه موقعا في غاية الحساسية في ظروف بالغة الدقة نهاية الستينيات وإلى ما قبل منتصف السبعينيات، بعد عفو ملكي عنه وعن آخرين، وهو الذي كان هاربا من حكم عليه بالحبس 15 عاما، بعد مناورة عسكرية، عدّتها محكمة عسكريةٌ مؤامرةً على الحكم والملك في العام 1957. وإذا جاز لبعضنا التبخيس من أهمية ما سرده نذير رشيد في كتابه الذي دلّ نشره على اختلاف بين «حساب السرايا» و«حساب القرايا». وإذا جاز لآخرين أن يروا أن في السرد، المدوّن في كتاب جرى منعه و«فرمه»، والموثّق بالصوت والصورة في فضائية شهيرة، من الأوهام كثير، ومن اتهام الآخرين، ومن تضخيم الذات كثير. إذا جاز ذلك، فإنه لا ينفي الأهمية الجوهرية لمبادرة الرجل، وهو في خريف عمره، إلى كتابة مذكراته، ذلك أنه فيها من دون رغبة منه ربما، يحفز نظراء له من النخب السياسية والأمنية والثقافية على نشر معايناتهم، وخلاصات تجاربهم في السلطة والحكم والمعارضة، وفي مواقع العمل العام والخاص التي تتصل بمسار الأردن الحديث. كأن نذير رشيد في الذي فعله، ينبه إلى استهانة النخب بوجوب الكتابة، وأن يُستمع إليها وتغذية ذاكرة الأردن والأردنيين بوثائق التجارب الخاصة، التي تلتحم بالضرورة مع تجربة البلد برمته، في مسارات تقدّمه نحو التنمية والتطوير والتحديث، وفي مفاصل ومحطات احتكاكه بالخارج وبتحديات وجوده، وفي منعطفات الداخل. من هذا الباب، كان خروجا عن سياق التكتم والتحفظ المعهودين في أهل الحكم، إصدار عبد السلام المجالي كتابه «رحلة العمر.. من بيت الشّعَر إلى سدة الحكم» في العام 2003. وكان حريا بالتثمين أن يكتب مروان المعشر مؤخرا، ولو بالإنجليزية، «منهج الاعتدال.. في ما يشبه السيرة» (تم ترجمته إلـى العربية). وعبثا يقع المرء على مثل هاتين المدونتين من السير الذاتية والسياسية والمهنية لفاعليات وطنية، كان لها حضورها ومشاركاتها في التسيير والإدارة والسلطة في الدولة خلال العقود الماضية. وليس في ذاكرة صاحب هذه السطور ما يمكن أن تأتي به في هذا السياق، فيما الحاجة شديدة لمذكرات ومشاهدات ومعاينات ومراجعات تُدلي بها شخصيات أردنية من طراز زيد الرفاعي ومضر بدران وعدنان أبو عودة وأحمد اللوزي وفايز الطراونة وطاهر المصري ومروان القاسم وعبد الهادي المجالي وعبد الرؤوف الروابدة، وغيرهم من ذوي الباع الطويل في المؤسسة الرسمية. يُؤتى على هذا، وفي البال أن أحاديث الذكريات، التي يحدث أن تنشرها صحف أردنية لشخصيات نيابية وحزبية ورسمية، وتضاء فيها وقائع من الماضي القريب والبعيد، تلقى استقبالا طيبا، وقد تبعث على جدل ونقاش. أما ما يحدث أن يبادر إليه التلفزيون الأردني في هذا الشأن فيتصف بالجفاف وقلة النفع وانعدام الجاذبية، ويحفل بالمجاملات ولا يكشف عن شيء ذي أهمية، على غير ما حدث غير مرة، في استضافة «الجزيرة» وغيرها شخصيات أردنية. ومن المهم التأشير إلى أهمية الوثيقة الاستثنائية في حلقات «شهادة على العصر» التي سجلها أحمد منصور قبل أعوام مع رئيس الأركان الأسبق الراحل الفريق مشهور حديثة. ومن المفارقات أن الملك الراحل الحسين بن طلال صدر له مبكرا، في العام 1975 أول مرّة ربما، كتابه «مهنتي كملك»، وهو أحاديث ذكريات أعدّها صحفي أجنبي، تم تعريبها لاحقا، فتيسرت قراءة الكتاب الذي يحوز قيمةً تاريخية وتوثيقية، بل وأدبية، رفيعة. أمام ضحالة المنشور من «شهادات» السياسيين الأردنيين الذين كانوا في مواقع رسمية، يتبدى أن الذين انخرطوا في العمل الوطني الواسع، كانوا أكثر تحررا من أولئك، وإن لم يوفروا مادة غنيّة في السياق المتحدّث عنه هنا، ومنهم البعثي العتيق ضافي الجمعاني الذي نشر مذكرات وافية في كتابه الذي تم منعه «من الحزب إلى السجن.. 1948 - 1994»، الصادر عن دار الريس للكتب والنشر في لندن. وقبله (الراحل) جمال الشاعر الذي أصدر في العام 1988 «سياسي يتذكر» عن دار الريس أيضا، وبعد ذلك بسنوات، أصدر له مركز «الرأي» للدراسات، كتابه «50 عاما في حزب البعث» والذي رغم افتقار لغته السردية إلى أي شحنة أسلوبية حارّة، توفر على وفاء إنساني تجاه التجربة الحزبية الشخصية. وليس بعيدا عن المتحدّث عنه هنا كتاب الراحل كمال الشاعر «من الدار إلى العالم.. سيرتي والمهنة». ويبقى كتاب يعقوب زيادين «البدايات» الذي صدر في بيروت العام 1980 رياديا، وفيه إضاءات كاشفة ترصد بدايات تشكل الفكر الماركسي في المجتمع الأردني التقليدي، فضلا عن تسجيله المشاعر الشخصية بشأن تجارب الاعتقال ومزاولة الطب والعمل النيابي المبكر. وكان طيبا أن زيادين بادر إلى إعلان مراجعة عميقة ونقدية لتجربته ولمسار النشاط الميداني والفكري للماركسيين والشيوعيين الأردنيين في العقود السابقة. وإذ ينشر قبل أيام القيادي السابق في حركة حماس إبراهيم غوشة،، كتاب مذكراته «المئذنة الحمراء.. سيرة ذاتية»، وإذ يعكف الأسير الأردني المحرر سلطان العجلوني على كتابة مذكراته، فإن التنويه بهذين الجهدين يحسن أن يقترن بتشجيع الفاعلين من أصحاب التجارب ذات القيمة الوطنية والمعرفية، بل والأدبية الذاتية الإنسانية الخالصة أيضا، على تدوينها ونشرها. فقد كانت خسارة كبيرة أن المكتبة المحلية، والعربية أيضا، تخلو من مذكرات شخصية للراحلين محمد عبد الرحمن خليفة، المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وسليمان النابلسي، ووصفي التل، ومحمد رسول الكيلاني وإبراهيم بكر وغيرهم من الشخصيات ذات الأدوار المهمة. تستحق التثنية مؤتمرات الاحتفاء بالرواد والمؤسسين للحركة التعليمية الجامعية والأكاديمية وللنشاط البحثي والفكري، من أهل التأليف والدرس، التي يقوم بها منتدى عبد الحميد شومان. وكانت مقدّرة كثيرا، بصدد العلماء الأجلاء ناصر الدين الأسد، وعبد الكريم غرايبة، ومحمد عدنان البخيت. لكن غياب مذكرات هؤلاء بأقلامهم، يبعث على الأسف. كما غياب مذكرات عبد الرحمن ياغي، وعبد الكريم خليفة (أول من نال درجة الدكتوراه في الأردن) ونهاد الموسى وغيرهم من أعلام التعليم الجامعي، ومن أصحاب الجهود البحثية الرائدة في حقول التاريخ والأدب والجغرافيا واللغة. وهنا، يكون في محله التنويه بكتاب أستاذ الجيل محمود السمرة «إيقاع المدى» الذي صدر قبل نحو عام عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وكتب فيه أن «الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه». وأغلب الظن أن هذا صحيح، وإن كان ما تذكّره سياسي وأمني أردني عتيق، هو نذير رشيد، في كتاب مطبوع، استحق غضبا واسعا وناله المنع، واضطر دار النشر أن تفرمه، أما المرئي منه في «الجزيرة» فربما كان طريفا أحيانا، ومزعجا في كثافة الحدّة في مواقع منه، ومُضجرا في مواقع أخرى، غير أن له موقعه المهم في تنويعه على استطرادات عن تاريخ الأردن. ** .. يتوقع منع سيرته قبل نشرها لم يحرص أهل الأدب والكتابة الإبداعية أيضا على نشر يوميات ومذكرات وسير ذاتية خالصة، ربما لأن معالم من تجاربهم تجد حضورها في نصوصهم، وربما لأن المنشور من الحوارات والمقابلات الشخصية معهم تحدثوا فيها عن محطات ووقائع في حياتهم، وعن مسار عيشهم ومصادر معرفتهم والبيئات التي نشأوا فيها والأفكار التي خاضوا فيها. وحدث أن أدباء أردنيين بادروا إلى جمع هذه الحوارات ونشرها في كتب، (إلياس فركوح مثلا)، غير أن ذلك كله لا يوازي في القيمة والأهمية كتابة الذات عن نفسها. فليس قدّامنا سير الراحلين روكس بن زائد العزيزي، وحسني فريز، وعيسى الناعوري، ومؤنس الرزاز مثلا بأقلامهم، وكان حسناً أن الشاعر تيسير النجار اجتهد في تقديم وتحرير شطر من سيرة الناعوري في كتاب للراحل، ونشره مؤخرا، وهو «رحلة إلى إيطاليا». ومن الحذاقة بمكان أن رئيس رابطة الكتاب الأردنيين القاص سعود قبيلات، ينشر في هذه الأيام في ملحق «الرأي الثقافي» يوميات من سنوات سجنه دوّنها قبل نحو عقدين. ويتذكر صاحب هذه السطور أن الأديب فخري قعوار أبلغه في حوار صحفي منشور قبل خمسة أعوام أنه يعكف على كتابة مذكراته، وأن الرقابة عند النشر ستمنعها على الأغلب (!). |
|
|||||||||||||