العدد 52 - ثقافي | ||||||||||||||
مراجعة: كيث ديفيد واتنبوه* اختراع العراق: فشل بناء الأمة وحرمان من المستقبل
تأليف: توبي دودج الناشر: مطبوعات جامعة كولومبيا، نيويورك سنة النشر: 2003 عدد الصفحات: 288 صفحة يتمتع كتاب توبي دودج: "اختراع العراق: فشل بناء الأمة وحرمان من المستقبل"، بفضيلتين أساسيتين: فهو كتاب جيد، كما أنه جاء في وقته. قليلة هي الكتب الموضوعة عن تاريخ الشرق الأوسط الحديث، التي تلقى قبولاً جماهيرياً، وتستقطب ملاحظات إيجابية من مجموعات مختلفة من مراجعي الكتب. فقد زكى الكتاب السيناتور جوزيف بايدن (نائب الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما حالياً)، والمعلق مايك شوستر من الإذاعة الوطنية العامة، والمدون المتميز والرئيس السابق لجمعية دراسات الشرق الأوسط (MESA) جوان كول؛ بل إنه نال تصنيف "يوصى به" من مجلة (Choice) الإلكترونية المختصة بمراجعات الكتب. ويبدو أن الكتاب يقول الشيء الصحيح في الوقت المناسب حول استحالة نجاح الحرب الأميركية على العراق، كما أنه ساعد على تأكيد الطبيعة الاستعمارية لتلك الحرب. لن تحيد هذه المراجعة عن تلك المراجعات، كما أنها لن تقدم توصيفاً آخر للنص؛ بل ستضع العمل في إطار الأدبيات الناهضة عن الاستعمار المتأخر، ممثلاً في صورة رئيسية بالدراسات المقارنة لنظام عصبة الأمم المتحدة التي أقامتها فرنسا وبريطانيا بين الحربين العالميتين، وتلقي نظرة على المشاكل التي تنشأ عندما يُستخدم التاريخ دليلاً إلى خيارات لسياسات معاصرة، أو مجرد رسم "خلفية" للحاضر. يمثل كتاب دودج جزءاً من حركة أكبر لطرح أسئلة حول الاستعمار في الشرق الأوسط، بطريقة تتجاوز السرديات العربية التقليدية ذات المنحى القومي والتي عادة ما تكون غير معقدة حول التحرر القومي المعادي للاستعمار. كما أنه يسعى إلى فهم الكيفية التي تم بها الانتقال من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار الجديد. وهو ينظر إلى نظام الانتداب بوصفه ختاما للأشكال السائدة من السلطة الرسمية في القرن التاسع عشر، وبخاصة من حيث الطريقة التي دمجت فيها بين طرق المستشرقين للمعرفة، ومقدمة لفرض الليبرالية الجديدة أو "العولمة"، كما في السياسات البريطانية والفرنسية، إذ إن السياسات البريطانية والفرنسية جسدت علاقة غامضة مع المثالية الليبرالية ورأسمالية اقتصاد السوق والولسونية. يقدم دودج مساهمة في هذا المشروع عبر إضفاء درجة ما من التعقيد على الوجود الاستعماري البريطاني في العراق: فاصلا التقسيمات الأكبر بين المسؤولين الاستعماريين المستقرين في كل من لندن والهند؛ فهو يستكشف آفاق النزاعات بين البيروقراطيين والمستعربين وضباط الجيش؛ ويُظهر كيف أن فرض المتطلبات من عصبة الأمم قد صقل التجربة البريطانية. في هذا المجال، يكمل هذا الكتاب عملا سابقا لبيتر سلوغيت، هو كتاب "بريطانيا في العراق: 1914-1932"، ويستفيد من التصنيف النهائي للأرشيف الدبلوماسي البريطاني الخاص بالعراق، ومن توافر الأوراق الخاصة لمعظم اللاعبين الرئيسيين في تلك الفترة، وحزمة متنامية من الأدبيات النظرية والمقارنة حول الاستعمار المتأخر. إن ثراء هذا المنهج يبدو في شكله الأفضل في الطريقة التي يمزج بها دودج بين ما هو أرشيفي وما هو نظري في مناقشته للكيفية التي أدخل بها المسؤولون الاستعماريون أفكارهم الرومانسية حول العرب إلى الإدارة الحديثة لمجتمع ريفي من خلال اختراع نظام وصاية معقد قائم على شيوخ القبائل. يتجلى ذلك في مناقشة الاستخدام المنهجي للطائرات بوصفها أداة حديثة للسيطرة الاجتماعية، فهو يستفيد استفادة جيدة من أفكار المراقبة والسلطة، المشتقة من قراءته لميشيل فوكو. غير أن المرء لا يرى كثيراً من العراق والعراقيين في هذا الكتاب، ورغم أن دودج لا يزعم أن هذا الكتاب يدور حول الطريقة التي اندمج فيها أولئك الذين أصبحوا عراقيين في مسار الوصاية، أو رفضوا المشروع، إلا أنه يُظهر نقطة الضعف الرئيسية لدراسات نظام الانتداب كما تعكسه الأرشيفات الأوروبية، فالخروج بتقييم حول الفترة المذكورة من خلال الاعتماد فقط على تلك الثروة من المعلومات التي تحتويها أرشيفات بريطانيا وفرنسا وعصبة الأمم مسألة مغرية، ولكنها يجب أن تتم بالتنسيق مع مواد من نوع آخر. ومن المؤكد أن عمل دودج يجب أن يعزز بمصادر عربية أولية أو ثانوية، وما لم يتم ذلك فإنه لا يستطيع حماية عمله من التحامل ومن نقاط عمياء في ما يتعلق بالاستعماريين المسؤولين الذين يتناولهم. هذه الثغرة في مصادره تحمل مفارقة من حيث أن معظم نقده للوجود الاستعماري الأميركي في العراق – وهو أساس مقدمته الجديدة وملاحظاته الختامية – يدور حول النقص الأميركي الواضح في فهم المجتمع العراقي، والذي خفف منه في صورة كبيرة استخدام واحدة من لغتي العراق الرئيسيتين. مع ذلك يبقى لكتاب دودج أن يخدم بوصفه علاجا لتلك الحاجة إلى الفهم، ولحسن الحظ، فإنه واحد من الكتب التي تملأ رفوف موظفي سلطة التحالف المؤقتة المحتمين في المنطقة الخضراء. وقد لاحظتُ وجود نسخة مهترئة منه إلى جانب كتاب سارة شيلد "الموصل قبل العراق: مثل نحل يبني خلايا مخمسة الأضلاع"، وكتاب إسحق نقاش "شيعة العراق"، وقرص مدمج لفيلم جيلو بونتيكورفو "معركة الجزائر"، ولسوء الحظ، لكنه كان أمرا ذا دلالة، ذلك الكتاب الكلاسيكي للفكر العنصري المعاصر: "العقل العربي" لروفائيل بطي. على أي حال، فإن الأصول ليست الأسباب. والدرس الذي أخذه كثير من مراجعي كتاب دودج، وبخاصة روجر أدلسون في مجلة "أميركان هيستوريكال ريفيو"، هو أن العراق بوصفه مجتمعا سياسيا كان محكوما بالفشل منذ البداية، وأنه الآن لا يملك سوى آفاق ضيقة للوحدة أو للخروج من خانة "الدولة الفاشلة". ليست هذه هي الفكرة التي يعرضها دودج، لكن بوضع العراق في إطار مناقشة الروابط بين اختراع الأمة في الماضي وإعادة اختراعها في فترة ما بعد 2003، من وجهة نظر الحاضر، فإن من الصعب مقاومة أخذ ذلك الدرس. عند ذلك يترك المرء وهو يطرح أسئلة من بينها: لماذا نجحت عمليات "اختراع الدول" في تجارب مثل الهند وجنوب إفريقيا – وكلاهما نتاج الاستعمار البريطاني – فيما يخفق العراق؟ في النهاية، فإن الإجابة عن أسئلة العراق الحديث في هذا المجال يحيي نوعا من صيغة إشكالية وناقصة إلى حد كبير للتفكير التاريخي الذي يعود إلى ماينسكه ورانكه وفيكو وفكرته عن (corsi e ricorsi). لقد سُوق كتاب دودج في الواقع ووُضع بهذه الطريقة تحديدا من قبل ناشره، ليعكس توجها جديدا للتاريخ أقل مما يعكس من حقيقة أن الكتب التي تتناول تاريخ الشرق الأوسط يُطلب منها أن تقدم أشياء لا تُطلب من كتب في حقول أخرى. وهذه الشكاوى من جانب المراجع ليست جديدة. وعلى أي حال فإن القرارات التي تم اتخاذها في ما يتعلق بهذا الكتاب تمثل دائرة شريرة في الوضع الراهن لحركة نشر تاريخ الشرق الأوسط: فالكتب التي تقول لنا شيئا عن "الحاضر" والتي تتصل بتجربتنا "نحن" في المنطقة هي، فقط، التي تحقق مبيعات، لذا فإن تلك الكتب فقط هي التي تنشر، بصرف النظر عن إمكانية أن يكون الاهتمام المتنامي بالحقل الأوسع لدراسات الشرق الأوسط قد خلق جمهورا لكتبنا، والتي تقلل، في النهاية، من قيمة ذكاء وموافقة عدد من المختصين وغير المختصين على شرائها واستخدامها وجعل الطلاب يقرأونها. فهي تساهم أيضا في المشكلة الأكبر المتمثلة في أن تاريخ الشرق الأوسط لا يعدّ، من قبل كثيرين، في إطار التيار الرئيسي لصناعة التاريخ، تاريخا حقيقيا، بل هو جزء ناقص منه، لذا، فإنه يُستثنى من أي إسهام محتمل في النقاش الواسع للأيديولوجيا والاستعمار أو النظرية. *أستاذ الإسلام الحديث وحقوق الإنسان والسلام، جامعة ديفيز - كاليفورنيا بالتعاون مع: المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط International Journal of Middle East Studies |
|
|||||||||||||