العدد 51 - أردني
 

جيني الحمارنة

ظل الربحُ الدافعَ الأول للاتجار بالعبيد في الغرب، وامتدت المكاسب المالية لهذه العملية لتشمل أنحاء الأرض جميعاً، بعد أن أكملت العبودية في أميركا ثلاثة قرون. فمن خاطفي العبيد وباعَتِهم في إفريقيا، إلى مالكي السفن الذين خاضوا رحلات مرهقة عبر المحيط الأطلسي لنقلهم، إلى تجار الرقيق في "السوق المفتوحة"، وصولاً إلى مزارع ملاّك العبيد وأسيادهم، انتشرت تجارة مربحة بضاعتُها ملايين الأفارقة أُجبروا على العبودية، رجالاً ونساءً وأطفالاً.

هؤلاء العبيد انخرطوا في قطاع الزراعة المزدهر في الأميركيتين، وخدموا في مزارع التبغ والسكّر والقطن الكبيرة، التي أنعشت سوقاً واسعة للتصدير في أميركا، وأنشأت مثلثاً تجارياً بين أوروبا وإفريقيا والأميركيتين. مع تنامي الحركات الداعية لإلغاء العبودية، والتقائها بالتحول الاقتصادي الذي طرأ على الزراعة بالانتقال من التبغ إلى القطن، ساد إدراك بأن العبودية، في أواخر القرن الثامن عشر، أصبحت تجارة متهالكة.

فقد تراجعت زراعة التبغ في ولايات فيرجينيا وميريلاند وديلاوير، بعد عقود من الإنتاج الكثيف له، ما وضع الأراضي أمام حالة من التآكل والتدهور. وتحول المزارعون إلى منتجات أكثر ربحية، بعد التناقص الكبير في أعداد العبيد العاملين لديهم، ولتجنُّب تحمُّل نفقات هؤلاء العبيد، منحهم المزارعون حريتهم.

في العام 1793 ظهر إيلاي وايتني، الاسم الذي يُذكر في كل مدرسة ابتدائية في أميركا. قام وايتني بثورة في الزراعة عندما اكتشف آلة حلج القطن؛ قبل ذلك كان العبد يستغرق يوماً كاملاً، لتنظيف رطل واحد من القطن (453 غراماً)، لكن مع الاكتشاف الجديد أصبح بإمكانه تنظيف 50 رطلاً من القطن يومياً. كما صنع وايتني، المعلّم في مزارع جورجيا، آلةً لفصل البذور عن القطن، فأصبحت عملية إنتاج القطن أسهل، وكلفتها أقل. لذلك انتشرت زراعة القطن بشكل متزايد في الجنوب، وتنامى إنتاج الولايات المتحدة منه، وازداد بذلك الطلب على العمال العبيد. وارتفع إنتاج القطن في الولايات المتحدة من 140 ألف أونصة في العام 1791، إلى 35 مليون أونصة خلال عشر سنوات، مسبباً طفرة في الشمال الأميركي ومعامل القطن الإنجليزية، مع ارتفاع الطلب على القطن. بناء على كل هذا لم ترتفع "أسعار" العبيد فحسب، بل إن عوائد زراعة القطن أضعفت الجهود لتشجيع تحريرهم، الذي بدأ بعد الثورة الأميركية.

وفي الأعوام ما بين 1790 و1860، انتقل زهاء مليون عبد إلى الغرب الأميركي، وهذا يقارب ضعْفَ عدد الأفارقة الذين جاءوا للولايات المتحدة خلال فترة عمليات الاتجار بالعبيد التي انتشرت عبر المحيط الأطلسي. بعض هؤلاء العبيد انتقلوا مع سادتهم، وبعضهم انتقل كجزء من التجارة المحلية الجديدة: قيام السادة في الولايات الساحلية ببيع عبيدهم، إلى أصحاب مزارع القطن في الجنوب الجديد.

تزايد الطلب على العبيد مع اختراعات أخرى في "الثورة الصناعية"، مثل آلات نسج القطن والآلات البخارية التي تنقله. وفي منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت الولايات المتحدة تزرع ثلاثة أرباع ما يحتاجه العالم من القطن، وكان معظمه يُصدَّر إلى إنجلترا، التي كانت تحوله في مصانعها إلى ملابس.

القطن "قصير التيلة" الذي زُرع في أراضي جنوب فيرجينيا، كان يمتلك الأفضلية، بعكس القطن "طويل التيلة"، الذي لم يكن ليناً جداً. ولم يمض وقت طويل حتى أصبح القطنُ أكثر المحاصيل الأميركية تحقيقاً للربح.

في العام 1790 أنتج الجنوب 3.135 مليون شوال من القطن، وعشية الحرب الأهلية وصل الإنتاج إلى ذروته (4.8 مليون شوال). وبعدما أعطى القطن حياة جديدة للعبودية، فإن العبيد الذين لم يعودوا ذوي نفع في الجنوب الأعلى، لم يُعتقوا، بل بيعوا في الجنوب السفلي. لذلك هناك كثير من العبيد الذين ولدوا في فيرجينيا أو ميريلاند أو جنوب كارولينا، ماتوا في المسيسيبي أو ألاباما أو لويزيانا، وأصبح بيع السود ونقلهم عبر الولايات تجارة رائجة. وفي العام 1803 استطاع القطن تجاوزَ التبغ للمرة الأولى بوصفه أكثر منتجات الولايات المتحدة تصديراً للعالم.

لكن الولايات التي تنتمي إلى الجنوب القديم (فيرجينيا وشمال كارولاينا)، لم تكن ملائمة لزراعة القطن، وبدلاً عن ذلك اتجهت مزارعها إلى "تكثير" العبيد بأعداد متزايدة. وأصبحت هذه العملية مصدراً رئيسياً للربح في كثير من مزارع التبغ القديمة. وفي العام 1820 بدأ نوع جديد من مزارع القطن الكبيرة المتخصصة، التي يعمل فيها مئات العبيد، يهيمن على التجارة.

تحولت المزارع الكبيرة إلى مشاريع مربحة لتكثير العبيد، ولم يكن للاتجار بالعبيد في الجنوب تاريخ أو جذور، بل هو أحد نتائج الثورة الصناعية والتكنولوجيا الجديدة، وبدا أن العبودية لن تلغى في وقت قريب. وبلغت قيمة الاتجار بالعبيد في الجنوب 35 بالمئة من مجمل رأس المال، ويذكر مؤرخون أن "قيمة" العبيد وصلت في منتصف القرن التاسع عشر إلى 2 بليون دولار من الذهب.

رغم أن الكونغرس الأميركي منع المتاجرة بالعبيد منذ بداية العام 1808، ورغم أن كثيرين كانوا يعتقدون أن الاتجار بالعبيد سوف يمضي إلى زوال، إلا أن ظهور موجة جديدة من صناعة القطن، أعادت الطلب على العبيد، بالتزامن مع انتشار المزارع في الجنوب الغربي على شواطئ المحيط الأطلسي. ويمكن القول إن العبيد الذين عملوا في الجنوب كانوا، نظرياً، أحفاد العبيد الموجودين في أميركا. وعلى مدى سنوات، جُلبت أعداد كبيرة من العبيد لأميركا بشكل غير قانوني. ومن المفارقة أن "استيراد" العبيد كان ممنوعاً، في الوقت الذي سُمح فيه بالاتجار بهم، وتجهيز السفن لنقلهم. ولاحقاً، حُظر الاتجار بالعبيد عبر البحرية البريطانية الملكية.

مع تزايد الاتجار بالعبيد، اكتسبت أميركا نوعاً من "الاكتفاء الذاتي" من العبيد، وتطورت مشاريع "تكثير العبيد" في فرجينيا وولايات أخرى، مستفيدةً من شبكة الطرق البرية والبحرية. انطلقت الطرق البرية عموماً من فيرجينيا وكارولينا إلى المزارع المربحة في عمق الجنوب مثل الاباما ولويزيانا. وشاع الاتجار بالعبيد في ولاية تكساس بعد حرب استقلالها في العام 1836، وكانت أهوال الطريق الوسطى للاتجار بالعبيد عبر الأطلسي، من أكثر الجوانب التي انطوت عليها عبودية الأفارقة قسوةً. ووفقاً لباحثين معاصرين، فإن معاناة العبيد وما أنتجته مشاريع "تكثيرهم" من مآسٍ، نادرا ما تُناقش، بل إنه كثيرا ما يجري نفيها وتكذيبها.

لكن إعلانات ظهرت في الولايات الجنوبية، آنذاك، تثبت العكس. في أحد الإعلانات في صحيفة "تشارلستون"، في جنوب كارولينا، يقرأ المرء العبارة التالية: "إنهم ليسوا زنوجاً تم اختيارهم من بين جماعة كبيرة لأغراض البيع، بل إنهم أفضل من ذلك، إذ انتقاهم المالك الحالي من بين كثيرين قبل سنوات عديدة. لقد تم شراؤهم للحفظ والتكاثر، ولأي مزارع يرغب فيهم لهذا الغرض، إنهم الخيار المناسب".

معاناة مسكوت عنها في التاريخ الأميركي.. مزارع تكثير العبيد:تجارة مربحة وعمالة مزدهرة
 
13-Nov-2008
 
العدد 51