العدد 51 - أردني | ||||||||||||||
السّجل - خاص الاستقالة المفاجئة التي لم تسبقها مقدمات لرئيس المجلس القضائي محمد صامد الرقاد، فتحت الأبواب للتكهنات حول خلفيات الواقعة، التي تحولت إلى مادة دسمة لأحاديث مجالس عمّان، وشكلت منعطفاً مفصلياً في العمل القضائي، بخاصة أن الرجل من القضاة المخضرمين، الذين نجحوا في اجتراح معادلة الموازنة بين استحقاقات تطوير القضاء، والحفاظ على المصالح السيادية للدولة. فالرقاد اجتاز أكثر من عاصفة كادت تزيحه عن الكرسي الأول في الجهاز القضائي الذي عمل فيه أكثر من نصف قرن، وبرع في تجاوز مطبات اعترضت طريقه منذ ستّ سنوات عندما تولى رئاسة محكمة التمييز، بعد أن كان النائب الأول لرئيس محكمتها، بينما رئيسها الحالي إسماعيل العمري قدم إليها من موقع الرجل الرابع في القضاء الأردني متخطياً أربعة من زملائه في المحكمة نفسها. وفيما تشير المعلومات المتسربة إلى أن غيوم التغيير التي أمطرت مرفقَ القضاء لم تكن بعيدة عن تداعيات توقيف رئيس تحرير صحيفة «الإخبارية» الأسبوعية فايز الأجراشي، من جانب مدعي عام محكمة أمن الدولة وما رافقها من وقائع، إلا أن مصادر قضائية تشير إلى إرهاصات سبقتها ولم تكن معزولة عنها وأفضت إلى هذه النتيجة. رسمياً لم يتم الربط علناً بين استقالة الرقاد وبين هذه الحادثة، لكن نقاشات سياسية وقانونية جرت في أضيق مواقع القرار خلال الأيام الماضية، ثارت بعد بروز القضية التي قال عنها المحامي المختص بشؤون المطبوعات محمد قطيشات إنها «انطوت على مخالفات إجرائية» عند توقيف موكله وتحويل قضيته لمحكمة أمن الدولة. إلا أن دعوة الملك لرؤساء تحرير الصحف اليومية قبل سفره، وتأكيده على معارضته الشديدة لتوقيف الصحفيين، يؤكد توقف الملك أمام هذه القضية واستياءه الشديد مما حدث، حيث قال بلغة حازمة: «ممنوع توقيف الصحفيين» في قضايا المطبوعات والنشر، وأضاف: «لا أرى أي سبب لتوقيف صحفي لأنه كتب شيئاً"، لافتا في الوقت نفسه إلى حق المواطن في اللجوء إلى القضاء في حال تعرضه للإساءة عبر وسائل الإعلام. مخالفات واضحة يقول قطيشات: «ما حدث في هذة القضية يخالف روح ونص توجيهات الملك، بخصوص إجراء تعديلات تشريعية على قوانين الإعلام تضمن حصر الاختصاص في قضايا المطبوعات في المحاكم الطبيعية المدنية وليس في القضاء العسكري كما حصل مع الأجراشي». وعبّر قطيشات عن قناعته بأن نيابة أمن الدولة «كان ينبغي أن تعلن عدم اختصاصها» في قضية الأجراشي. القضية تحركت ضد الأجراشي بعد دعوى قضائية سجلها محافظ العاصمة أسعد الوادي المناصير، إثر نشر خبر يخصه ويتهمه بمجاملة أقرباء له. يقول الأجراشي إنه خضع للاستجواب ثلاث مرات، ومثل أمام ثلاث محاكم، حيث قدّم إفادته على ادعاء محكمة البداية، ثم طلب إلى الادعاء الخاص بمكافحة الفساد، قبل أن ينتهي المطاف به في محكمة أمن الدولة ليتم توقيفه ثم الإفراج عنه. خبراء قانونيون يرون أن مؤشرات خلل ظهرت في الإجراءات، تخص دراسة وتقييم ثم تكييف قرار الظن بحق الأجراشي. على المستوى المهني والقانوني أثار ما حدث مع الصحفي، سجالات ونقاشات، فيما تفاعل الأمر لاحقاً، ونظمت اجتماعات على مستوى عالٍ على خلفية التثبت من المسألة وتقييم ما جرى، وبحسب تقرير نشرته «القدس العربي» فإن «توقيف الصحفيين مسألة ما زالت تثير استياء وغضب الملك عبد الله، بخاصة أنه أعلن رسمياً عدم ترحيبه بتوقيف صحفيين في قضايا نشر، وأعلن ضمانته الشخصية لكل مواطن أو صحفي ينشر أو يقول رأيا حراً وإيجابياً من دون اتهام». يمكن عدّ القرار الأخير الذي أصدره مدعي عام أمن الدولة علي الحيصة بعدم اختصاص محكمة أمن الدولة في النظر في قضية الأجراشي، شكلاً من أشكال الاستدراك لما حدث في تلك القضية. المدعي العام أرجع عدم الاختصاص سندا للمادة 41/أ من قانون المطبوعات والنشر التي تحصر صلاحية النظر في قضايا المطبوعات في محكمة بداية عمّان. ورفع المدعي العام قراره إلى النائب العام لدى نيابة أمن الدولة، ويُنتظر أن يصدر قرار النائب العام إما بفسخ القرار أو المصادقة عليه. لا أدلة على الربط بين هذه الواقعة التي تناولت ما حدث مع الأجراشي، وبين التغييرات التي حدثت في أرفع مناصب القضاء، إلا أن مصادر تؤكد أنها «القطرة التي فاضت بعدها الكأس»، وليس مألوفاً أن يتم الإعلان عن أسباب الإقالات التي تتم ضمن بروتوكولات مماثلة. تشكيلات التشكيلات القضائية التي أجراها الرقاد، في معرض سعيه لتطوير الجهاز القضائي لم تتقيد باستحقاقات الالتزام، الذي تظهره الدولة تجاة حرية التعبير والإعلان عن رفض الحبس للصحفيين كإجراء احترازي، وهو ما دفع بقضاة شبان لرفع مذكرة إلى الديوان الملكي تشرح ظروفاً وملابسات يمر بها الجهاز القضائي، تطرقوا فيها إلى «تعيين المدعين العامين والتشكيلات الكثيرة، والمطالبة بتعديل قانون استقلال القضاء، وبخاصة المادة 16 منه التي تجيز للمجلس القضائي عزل أي قاضٍ دون إبداء الأسباب. بحسب قاضٍ فضّل عدم نشر اسمه، فإن «القضاة الشبان وضعوا على الطاولة مجموعة من التظلمات من السياسات القضائية الداخلية، أولها الخوف الذي يستشري من النقد الذي أدى إلى انعدام الحوار الداخلي بين أعضاء الجسم القضائي، أو بين فئة القضاة الكبار وفئة الشبان، والرعب الذي يتملك القضاة من صلاحيات المجلس القضائي في إحالة أي قاض على التقاعد في أي وقت، والتدخل في عمل القضاة المهني وليس الإداري، والتنقلات التي يرون أنها غير منصفة لكثيرين وتخدم فئة بقيت في موقعها لفترات طويلة دون أي تنقل بين المحاكم، و الإحالات على التقاعد التي شملت عدداً كبيراً من القضاة في السنتين الأخيرتين». المناقشات، كما يكشف القاضي، شملت «البعثات الخارجية والسفريات التي اقتصرت غالبا على فئة محددة من القضاة دون غيرهم»، الأمر الذي تسبب في حدوث حساسيات مهنية داخل الوسط القضائي. العدل والفصل ترافق ذلك مع تذمر قضاة من المطالبة بسرعة «الفصل» في القضايا المنظورة أمامهم، ومغبة أن يتم ذلك على حساب مقتضيات العدل، وهي قضية استحوذت على مساحة واسعة من الجدل داخل الجسم القضائي، ذلك أن المطالبات بتسريع إجراءات التقاضي أدت ببعض القضاة لإصدار قرارات تفتقر إلى الأسانيد التشريعية والعناصر التي يمليها القانون. نجح الترويج لهذا المبدأ في زيادة عدد القضايا المفصولة وتسريع التقاضي، إلا أن هناك من يعارضه في أوساط القضاة، فقد شكا رئيس المجلس القضائي خلال التقرير القضائي الذي صدر في العام 2006، من بطء إجراءات التقاضي ،وقال إن وضع القضاء الأردني: «دون المأمول» بعد مضي ثماني سنوات على تشكيل اللجان ووضع استراتيجيات تطوير وتحديث القضاء، بسبب سياسة وزارة العدل في ضبط الإنفاق. لكنه أكد في العام 2007 أنه رغم زيادة عدد القضايا الواردة للمحاكم بنسبة 10 بالمئة عن العام 2006 فلم يزد عدد القضاة، ونظراً لزيادة الإنجاز بفصل القضايا فقد حافظت المحاكم على نسبة الفصل، وهي 98 بالمئة. لكن قاضياً شاباً ينظر للأمر في ضوء مبدأ قانوني يختزله بالقول: «إن العدالة البطيئة هي أشد أنواع الظلم». لا يتحمل رئيس المجلس القضائي وحده وزر هذه الموازنة، فهو يعمل بإمكانيات تعود لأيام الراحلَين موسى الساكت وعلي مسمار. عاصفة العاصفة الأهم التي نجا الرقاد منها، هبّت إبان رئاسة معروف البخيت للحكومة، عندما اشتكى من عدم وجود تناغم بين السلطتين التنفيذية والقضائية، وتلميحه لاحتمال تغيير رئيس المجلس القضائي، وقد سارع الرقاد لتبني سياسة جديدة أسماها «الانفتاح المنضبط» على الصحافة، وأطلق خلال لقاء مع صحفيين تصريحات شكا فيها من «تغول السلطة التنفيذية على القضاء وتدخلها في عمله»، قائلاً إنه «لا يستطيع شراء قلم رصاص لمكتبه دون موافقة وزير العدل». حملة الرقاد فرضت شروطاً جديدة لهدنة بينه وبين البخيت، دفعت برئيس المجلس القضائي إلى إعادة إنتاج تصريحاته بخصوص تدخل وزراء في عمله، وطلب أحدهم إرسال المدعي العام إلى مكتبه لأخذ أقواله، وعدم مثول آخر لدعوات القضاء له للمثول بين يديه. يُعزى صمود الرقاد في وجة «التحديات» إلى نجاحه بالترويج لسياسته في تطوير القضاء، التي وازنت بين الاعتبارات السيادية والمتطلبات الدولية، والتي تجلت في رسالته إلى رأس السلطة القضائية التي قال فيها إن «الأمن لا ينفصل عن إيمان القضاة أنه من المتوجب عليهم صيانة كرامة وعزة الإنسان دون تمييز بين الناس لأي سبب من الأسباب. والمواطنون الأعزاء الأحرار السادة هم الذين يبنون الأوطان ويحققون طموحات شعوبهم. أما المواطن الذي يشعر بأنه ذليل مهان محتقر في وطنه مهدورة كرامته ومضيعة حقوقه، فلن يكون إلا حاقداً على وطنه ومواطنيه». ويقول: «لذلك فإن القضاة يؤمنون بأنه من المتوجب على كل صاحب سلطة أو صلاحية أو مسؤول في أي جهاز من أجهزة الدولة أن يحرص -وهو يمارس صلاحياته وينهض بمسؤولياته ويؤدي أعماله– على المحافظة على كرامة وحرية وعزة وشرف المواطن الأردني والإنسان بشكل عام، وإن لم يفعل يكون قد أساء إلى شعبه ووطنه». أما القضية الأكثر إثارة، فقد نتجت عن التشكيلات القضائية المتكررة. القصة التي يرويها الرقاد حول استقالته تؤكد أنه تم استدعاؤه لقصر البركة، وأُبلغ بالرغبة في التغيير، فطلب الرقاد إحالته على التقاعد، ورُفض الطلب. وأبدى الرقاد ما وصفه «فخره» بمنحه «شرفاً لم يحظ به أي رئيس للحكومة»، وقصد الرقاد مكتبه وكتب استقالته بعد أن تم استمزاجه باسم خليفته. خطوة نحو التغيير تعيين إسماعيل العمري في أعلى منصب بعد مضي أكثر من أربعين عاما من عمله في السلك القضائي يُنظر إليه في الأوساط القضائية، بوصفه خطوة نحو التغيير، بخاصة بعد الشح في الكفاءات مع ابتعاث عدد من القضاة إلى دول خليجية. وتبرز أمام العمري تحديات أولها إعادة توصيف أسس اختيار المدعين العامين، والموازنة بين مبدأي الفصل على حساب العدل والعدالة البطيئة، وإخراج القضاء الأردني من الصبغة المحلية التقليدية إلى الصبغة العالمية، واستقطاب قضاة من خريجي الجامعات العريقة، ونقل التنسيب بتعيين القضاة من وزير العدل إلى رئيس المجلس القضائي، أو لجنة قضائية، لتنحصر صلاحية تعيين القضاة بالمجلس القضائي وموافقة الملك، إضافة إلى إصدار نظام إدارة المجلس القضائي، ونظام موظفي رئاسة المجلس القضائي، حتى تتم إعادة تعديل هيكلة المجلس، الذي يعمل بالإمكانيات القائمة في منتصف القرن الماضي حين كان عدد القضاة لا يتجاوز سبعين قاضياً، وإدخال تعديل على قانون نقابة المحامين يمنح القضاة صلاحية فرض العقوبة المناسبة على المحامي الذي يتعمد تعطيل سير الإجراءات القضائية أو يعرقل سير العدالة ويؤخر الفصل في الدعاوى. عدد القضاة النظامين بلغ حتى نهاية العام المنصرم نحو 692 قاضياً، منهم 39 من الإناث، وبلغ عدد العاملين منهم 633 قاضياً، حيث أحيل 21 قاضياً على التقاعد والاستيداع واستقال ثلاثة قضاة، اثنان منهم لغايات الترشيح للانتخابات النيابية، وقرر المجلس إنهاء خدمة ستة قضاة لأسباب مختلفة. وتمت إعارة أو تمديد إعارة 25 قاضياً، ضمن إطار التعاون القضائي بين الأردن ودول عربية. |
|
|||||||||||||