العدد 51 - دولي
 

صلاح حزين

منذ استقلالها، عام 1960، لم تهدأ الأمور في جمهورية الكونغو التي كانت درة التاج البلجيكي، حتى ذلك العام. كان الحكم الاستعماري مرعبا، ولكنه، مثل كل استعمار آخر، كان قادرا على استخدام إمكانياته، كدولة أوروبية متقدمة، على خلق اقتصاد متطور، تعيش على هامشه طبقات معينة من الشعب الكونغولي.

ولكن هذا البلد الواقع في وسط إفريقيا، والذي يحتوي باطن أراضيه على ثروات من الذهب والألماس والنحاس وغيرها، لم يعش فترة من الهدوء منذ استقلاله الذي أطلق حركات تمرد وانفصال، فضلا عن حروب أهلية ومجازر وحروب خاصة قادها أمراء حرب برزوا على هامش الفوضى التي عمت البلاد، وتدخلات خارجية من جانب الدول العديدة التي تحيط به. ولم تعرف الكونغو استقرارا حتى في عهد الدكتاتور موبوتو سيسي سيكو الذي غير اسم بلاده إلى زائير، وأقام حكما مطلقا وفاسدا وتابعا لأكثر من أربعين عاما، انتهت بسقوطه عام 1997.

على هذه الخلفية من عدم الاستقرار والتدخلات الخارجية والثروات التي تحتضنها أرض الكونغو بدأت أعمال العنف المتبادلة بين القوات المتمردة على حكم الرئيس الكونغولي جوزيف كابيلا، المتمركزة في شرقي البلاد، بقيادة لوران نكوندا والتي صاحبتها مذابح مروعة ضد المدنيين، خاصة وأن أحد الأبعاد الخطيرة التي تمخضت عنها حركة التمرد الحالية تمثلت في عودة العداوات التي كانت قائمة بين قبيلتي الهوتو والتوتسي في رواندا المجاورة للكونغو والتي ذهب ضحيتها منذ اندلاعها في العام 1994 نحو خمسة ملايين شخص.

ولكن ما علاقة رواندا بما يجري في الكونغو حاليا؟

على مدى أربعة عقود من الفساد تحول الكونغو تحت حكم موبوتو من بلد غني بالموارد مرهوب الجانب إلى بلد فاسد يئن فيه الشعب من وطأة حكم دكتاتوري، وذلك بعكس جارته الشرقية رواندا التي تحولت من بلد مهمل متخلف إلى بلد مرهوب الجانب، يمتلك واحدا من أقوى جيوش إفريقيا، وكثيرا ما يجري في الغرب تشبيه رواندا بإسرائيل من حيث القوة العسكرية المتفوقة على دول الجوار. في العام 1994 تم اغتيال رئيس رواندا جوفينال هايباريناما، فخلفه في الحكم نظام متطرف متعصب لقبيلة الهوتو. وسرعان ما بدأ النظام الجديد مجزرة ضد قبائل التوتسي أسفرت عن مقتل 800 ألف شخص خلال ذلك العام وحده، وتزامن ذلك مع هجرة مئات آلاف التوتسي إلى زائير.

ولكن الحكم لم يستمر لمتطرفي الهوتو في رواندا، فأتى حكم جديد بقيادة من قبائل التوتسي، وبدأ بدوره حملة ضد مقاتلي الهوتو الذين كانوا يدعمون النظام السابق، ما جعل مئات الآلاف منهم يعبرون الحدود إلى زائير، حيث استقبلهم نظام موبوتو وبدأ في دعم المقاتلين منهم وتسليحهم وإرسالهم عبر الحدود إلى رواندا للقيام بأعمال تخريب، ما أشعل حربا استمرت سنوات، بدأت خلالها رواندا في دعم متمردين كونغوليين يقاتلون لإسقاط موبوتو بقيادة لوران كابيلا، والد رئيس الكونغو الحالي جوزيف كابيلا. وبدعم من أفضل جيش في المنطقة، تمكن كابيلا من إسقاط موبوتو، وسرعان ما أعاد للبلاد اسمها السابق الكونغو ليصبح اسمها الجديد الكونغو الديمقراطية.

وكان من الطبيعي أن تطلب رواندا من كابيلا القضاء على بقايا المقاتلين الهوتو الذين سلحهم موبوتو ليتسللوا عبر الحدود مع رواندا والقيام بعمليات تخريب فيها. ولكن كابيلا لم يفعل، وهو ما أثار حفيظة رواندا، التي بدأت من ناحيتها، في تسليح مقاتلين من التوتسي للقيام بأعمال تخريب في الكونغو. وهكذا اجتمعت على الحدود الشرقية للكونغو الفاصلة بين الكونغو ورواندا قوات المتمردين التوتسي بقيادة لوران نكوندا تحمل اسم المؤتمر الوطني للدفاع الشعبي، وقوات من الهوتو من بقايا القوات التي كانت هربت من رواندا ونظمت نفسها في حركة أطلقت على نفسها اسم الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة بول كاغامي، وهناك قوات دولية ترابط في البلاد منذ مجازر التسيعينات في رواندا.

كانت تلك بداية أعمال العنف الحالية التي يقوم بها متمردون ينتمون إلى قبائل التوتسي بقيادة لوران نكوندا، ضد حكومة الكونغو، ولكن الهدف المعلن الذي يرفعه نكوندا هو أنه يريد حماية التوتسي من مسلحي الهوتو الذي يزعم أن نظام جوزيف كابيلا يدعمهم.

على خلفية أعمال العنف هذه، بدأت فرنسا حملة لإقناع العالم الغربي بالتدخل لوضع حد لتقدم قوات المتمردين بقيادة نكوندا، والذين هدد زعيمهم بالاستمرار في القتال حتى الوصول إلى كينشاسا عاصمة الكونغو التي تقع في أقصى غربي الكونغو، وهذا ما جعل نكوندا يضع فرنسا على رأس قائمة أعدائه.

من المؤكد أن فرنسا دعت إلى تدخل الغرب انطلاقا من حرصها على عدم وقوع الثروات التي تذخر بها الكونغو في أيدي متمردين معادين لها، هي التي حمت موبوتو أكثر من مرة بتدخلها العسكري هناك للسبب نفسه، ولكن هنالك أيضا المجازر المروعة التي ترتكب على خلفية الصراعات الدامية بين التوتسي والهوتو. فقد أوردت وكالات الأنباء ومحطات التلفزيون والصحف أنباء عن مجازر مرعبة ارتكبتها قوات المتمردين بقيادة نكوندا ضد سكان أبرياء لمجرد أنهم من قبائل الهوتو، ما يحمل شبهة التطهير العرقي. وكما يحدث دائما فإن ضحايا المجاز هم في العادة من الأطفال والشيوخ والنساء ومن المرضى الذين لا يستطيعون التحرك.

وقد ازدادت الجرائم فظاعة بعد احتلال قوات نكوندا لقاعدة استراتيجية فريبة من مدينة غوما في شرقي الكونغو، حيث رصدت أعمال قتل على نطاق واسع.

وعلى الرغم من أن اتفاقا لوقف إطلاق النار قد وقع أخيرا بين المتمردين وقوات الحكومة، فإن الاعتقاد السائد هو أن القتال سرعان ما سيتجدد، ولا يستبعد أن تنطلق القوات المتمردة من شرقي البلاد، حيث تتمركز الآن نحو العاصمة كينشاسا البعيدة، فمن هنا بدأ زحف لوران كابيلا لإطاحة موبوتو.

الكونغو: فصل جديد في حرب قديمة
 
13-Nov-2008
 
العدد 51