العدد 51 - ثقافي
 

عواد علي

يسمي العراقيون محاكاة واقعة الطف، التي استشهد فيها الحسين بن علي بن أبي طالب في كربلاء، في إطار درامي طقسي: «التشابيه». وتدرج هذه المحاكاة في تاريخ المسرح العربي ضمن الظواهر التمثيلية، أو الأشكال شبه المسرحية التي عرفها العرب، وتسمى تجوزاً بمسرح «التعزية» أو «العزاء»، وتعود بداياتها إلى القرن العاشر الميلادي. وغالباً ما يؤدي الأدوار فيها ممثلون بعيدون عن الاحتراف المسرحي، بتوجيهات من رجال دين يتولون عملية الإخراج. تثير هذه المحاكاة التراجيدية، عادةً، ردود أفعال عاطفية عند عامة الناس، وهم يشاهدون ممثلين بملابس ملونة تشير إلى جيش عبيد الله بن زياد، وقائده عمر بن سعد من جهة، وأتباع الحسين بملابسهم الخضر من جهة أخرى، إضافة إلى خيام وخيول ونساء متلفعات بالسواد، وسط صراخ الأطفال وعويلهم عندما تحدث المبارزة، التي غالبا ما تكون بعيدةً عن التمرين، والأصول التي ترتقي باللعبة إلى مستوى التصديق.

تسبق تقديم هذه المحاكاة مجموعة طقوس تبدأ في اليوم الأول من شهر محرم بمظاهر الحداد والحزن التي تعم المدينة، إذ ينتشر فيها السواد في كل مكان، حتى منائر الجوامع وأعمدتها، وتنصب «مخيمات» المواكب الحسينية، التي تعلق فيها صور تمثل مشاهد من مأساة الحسين. في الليلة التي تسبق ذلك اليوم تتقاطر مواكب «اللطم» إلى الجوامع مبكرة، حيث يسمى كل موكب باسم منظمه وراعيه، أو باسم المحلة أو المنطقة التي تنظمه. تبدأ طقوس المواكب هادئة، ورداتها حزينةً معبرةً عن آلام السبايا من النساء، مثلما تكون أعلامها السود منكسة أثناء المسيرة الوئيدة، التي تنسجم خطواتها مع صوت الردة الخافت. هكذا تطوف مواكب المشاءين الشوارع والمحلات حتى تنتهي في الجامع أو في مقر منظم الموكب، في حين أن مواكب الزنجيل تبدأ بالظهور في اليوم الثالث من الشهر عصراً، وتستمر حتى أوائل الليل، وتكون على هيئة صفين من المشائين، في كل صف من الصفوف عدد من الرجال والصبية بملابس سود مثقوبة وممزقه من الكتفين، أو من الظهر كي يتم الضرب على الجسد مباشرةً بسلاسل من حديد، وعلى أصوات آلات نحاسية تتبع في إيقاعها الطبول واللحن الحزين الذي ينشده أحد المشتركين. وترتفع من حين لآخر أصوات باكية منفعلة، تنادي بصوت عال: «يا علي، يا حسين، يا شهيد كربلاء»، ويضرب أصحابها صدورهم العارية بأيديهم بقوة، أو ظهورهم بسلاسل الحديد. وتستمر مسيرة التوابين النائحين حتى اليوم العاشر من محرم،حيث تتخذ شكلاً عنيفاً وهائجاً استعداداً للتطهير، ويحلق الرجال والصبية رؤوسهم، ويرتدون الأكفان، ويحملون سيوفهم وقاماتهم، ليطبروا بها في الصباح الباكر.

بعد أن يصل الاحتفاء بالذكرى إلى ذروته التطهرية حد النزف في ذلك اليوم، يبدأ التعبير الدرامي «التشابيه»، أو محاكاة مأساة قتل الحسين، ومن معه من أطفال ونساء ورجال على يد جيش زيد بن معاوية. وتكون هذه المحاكاة خالية من الخدع، فالرؤوس التي تعلق على الرماح هي رؤوس دمى ملطخة بالدماء، ورغم ذلك فإن هذه العملية تثير أعمق مشاعر لدى المشاهدين وتستثير بكاءهم، وبخاصةً مع أداء مقرئ المقتل، الذي يجسد جميع الأدوار بصوت شجي، فيندفع أكثرهم إلى مهاجمة أتباع عمر بن سعد، وأولهم الشمر بن ذي الجوشن، الذي يقذفونه بالحجارة، رغم علمهم أنه مجرد ممثل لا علاقة له بالواقعة القديمة،التي مضى عليها أكثر من ألف عام .

يرى الباحث محمد عزيزة في كتابه «الإسلام والمسرح» أن التعازي الشيعية ظهرت بشكلها الدرامي، أول ما ظهرت، في بلاد فارس، ثم انتقلت إلى البلاد العربية. لكن باحثين آخرين يخالفونه في ذلك، اعتقاداً منهم بأن شعر التعازي الذي حاكى مقتل الحسين بلغة الانفعال الديني الدرامي قد ولدّ أولا، وقبل كل شئ، حيثما ولدت المأساة في العراق، وكانت ولادته بمثابة ردة فعل لما حدث، أو تعبيراً عن عقدة ذنب شعر بها أهل الكوفة لخذلانهم للحسين. هكذا تبلورت العقدة على هيئة رثاء مذهبي، وأشعار حماسية تشيد في شكلها ومضمونها بفدائية شخصية الحسين في كربلاء وبطولته. وعندما شعر خلفاء بني أمية بخطورة هذه النصوص الشعرية والقرائية، أصدروا أوامرهم بمعاقبة من يمارسها أو يتلفظ بها، مما اضطر ناظميها وقارئيها إلى كتابتها باللغة الفارسية تسترا عليها. وحسب رأي فاضل السوداني، في دراسة له بعنوان «التعازي طقس درامي شعبي»، فإن «التعازي في بداية نشوئها كانت تقليداً حياً لمأساة الإمام الحسين بكل تفاصيلها الواقعية، لكن بمرور الزمن لم تعد طقساً دينياً فحسب، وإنما امتزجت بالحياة السياسية والاجتماعية، إذ إن بطلها الحسين لم يعد رمزاً دينياً فقط، بل رمزاً لبطل قومي ثوري يستلهم الشعب ثوريته وتضحيته».

تشير الأبحاث المنشورة حول مسرح التعزية إلى أن أول من شاهد، من الأوروبيين، عرضاً للتعازي، وأطلق عليه اسم عرض مسرحي درامي هو الإنكليزي فرانكلين، وذلك العام 1788. يقول السير لويس بيلي (1879)، وهو دبلوماسي بريطاني عاش في طهران: «إذا توجب قياس نجاح الدراما عن طريق التأثير الذي تحدثه في الذين ألفت من أجلهم، أو في المشاهدين الذين تمثل أمامهم، فلا توجد أبداً مسرحية فاقت التراجيديا المعروفة في العالم الإسلامي باسم «الحسن والحسين». ويذهب محمد عزيزة، في كتابه «الإسلام والمسرح»، إلى أن الاستثناء الوحيد لقاعدة الغياب المسرحي في العالم الإسلامي هو التعازي الشيعية، التي أعطت الإسلام الشكل الدرامي الوحيد الذي يعرفه.

ظهر مسرح التعزية في إيران مع دخول المذهب الشيعي إليها، ويعدّ من الأركان والعلامات المميزة للمسرح الإيراني؛ ويلقى دعماً متواصلاً من المسؤولين، وإقبالاً متزايداً من الجمهور. يصف أحد الباحثين عرض هذا المسرح بأنه يبدأ عندما يعتلي المنشد خشبة المسرح... ثم يدخل رجل جسيم كاشفًا عن نصف جسمه الأعلى، يهزّ عموداً غليظاً يتدلى من وسطه، ويتبعه آخر له مثل هيئته، ويتلوهم سقّاء يحمل قربةً مليئةً ينحني تحتها ظهره العاري، بترميز واضح لموت الحسين ظمأ، ثم يُؤتى بنعش يتهادى على أكتاف ثمانية رجال في مقدمته حلية بديعة من نفيس الجوهر، وعلى ظهره نجم متلألئ، وتساق أربعة من أكرم الجياد المزينة، يتبعها رجال في قمصان بيض ملطخة بالدماء، يصرخون بملء صدورهم، ويمثلون أصحاب الحسين الذين قتلوا وهم يدافعون عنه، ثم يظهر فرس أبيض عليه سرج أسود عليه آثار الجراح، كأن السهام رشقت في جسمه حتى كادت تخفي كل موضع فيه، وهو الفرس الذي كان يمتطيه الحسين في كربلاء. يرتفع العويل وتنهمر عبرات الناس لدخول الحسين ونسائه وذوي قرباه، ثم يرقد الحسين مستسلماً للموت، ويحمل عليه القتلة، فيغضب المشاهدون وتشتد غضبتهم، ويصيحون مستنكرين ويخرجون عن طورهم، ويتمثلون الخيال حقيقة فيرجمون القتلة قبل أن يولوا هاربين. لذلك قلما يرضى الممثلون القيام بدور قتلة الحسين خشية استهدافهم بحجارة قد تهلكهم. ويعرض مشهد آخر هو حريق كربلاء، فتضرم النار في بعض أكواخ من قصب، وهناك مشهد لا يخلو من روعة، وهو مشهد جثث الشهداء وأشلائهم، ولتمثيل ذلك تحفر حفرة لمن يدفنون أنفسهم إلى رؤوسهم أو يدفنون رؤوسهم ويظهرون بعض أعضائهم، وكأن ثمة رؤوساً من غير أجساد، وأجساداً من غير رؤوس.

العام 1970 قام المخرج الإنجليزي «بيتر بروك» مع فريقه المسرحي بزيارة إلى ايران. وانطلاقاً من رؤيته الاستشراقية، وإعجابه بالطقوس والأساطير والملاحم الشرقية، أبدى دهشته مما شاهده من تمثيل لواقعة الطف المأساوية، وأسلوب عرضها، في إحدى القرى: «كانت جماهير القرية تتوقع تماماً ما سوف يحدث، وذلك لأنهم كانوا على علم بتفاصيل ما هو قادم، أما نحن فلم نعلم شيئاً، كل ما كنا قد أُخبرنا به هو أن العزاء شكل من المسرحية الإسلامية الغامضة، وأن هناك عدة مسرحيات شبيهة، وأنها تصور استشهاد الأئمة الأوائل من آل بيت النبي محمد». ثم وصف «بروك» العرض بقوله: «كان الموسيقي الجالس تحت الشجرة يعزف ايقاعاً مباشراً على الطبل، ويتقدم قروي إلى وسط الدائرة ينتعل حذاءه المطاطي، وقد بدأ في مظهر شجاع. كان قد وضع قطعةً طويلة من القماش الأخضر الزاهي الألوان حول كتفيه، إنه اللون المقدس، لون الأرض الخصبة، الذي يشير إلى أن ذلك الشخص رجل مقدس،، فبدأ يغني لحناً يحتوي على قليل من النوتات في نمط معاد ومكرر لكلمات لم نتمكن من متابعة معانيها، لكن اتضح معناها في الحال من خلال صوت انطلق من أعماق المغني. إن الهياج العاطفي الذي كان به وهو يغني لم يكن نابعاً منه، بل كأنه صوت أبيه وأبيه إلى آخر السلالة. لقد وقف هناك ورجلاه متباعدتان، وكان مقتنعاً بقوة تامة، بعمله هذا، وكان هو تجسيداً لتلك الشخصية التي هي في مسرحنا، دائماً بمثابة أكثر الشخصيات حيرة، وهي شخصية البطل».

رغم أن «بروك» لايقدم تفاصيل للأحداث، فإنه يعبر عن وجهة نظره في دلالات ذلك العرض وجوهره الطقسي، واداء الممثل، واختلافه عن أداء الممثل الغربي في المسرح، فيرى أن شخصية العرض يمكن أن يُنظر اليها مثل سقوط «إيكاروس» في الأسطورة اليونانية، الذي حاول أن يحلّق ليصل إلى الآلهة. وهو تشبيه في غير محله يشير إلى عدم تعمق «بروك» في فهم أبعاد الشخصية وحساسيتها في هذه الواقعة التاريخية. لكنه في المقابل يحلل نمط الأداء برؤية ثاقبة، مؤكداً أن مشهد العزاء لا يحمل أية محاولة، من وجهة نظر مسرحية، لبلوغ الاتقان، فالتمثيل لايتطلب خلق شخصيات روائية مكتملة، وكاملة التفاصيل او حقيقية جداً، وإذا لم تكن ثمة محاولة للتزيين يوجد معيار آخر يحل محله: وهو الحاجة إلى إثارة الصدى الحقيقي للنفس.

يفضل «بروك» التجربة الطقسية التقليدية لعرض «العزاء» بأدواتها الفقيرة وتقنياتها البسيطة وفضائها الشعبي، على عرضها الاحتفالي الرسمي الذي يقدم بتقنيات حديثة، وإخراج مسرحي مدروس، مشيراً إلى الاختلافات بين التجربة التي شاهدها في القرية الإيرانية، والتجربة التي أمر الشاه بتقديمها في مهرجان شيراز الدولي للفنون العام 1971، في محاولة منه إعطاء العالم صورة ليبرالية جيدة عن بلاده. لقد كان عرض المهرجان، في رأي «بروك»، من دون مظهر عزاء، شيئاً عادياً تماماً، بل كئيباً خالياً من أية أهمية حقيقية، ولم يعط أي شيء. أما الذين شاهدوه فلم يدركوا كل هذا، لأنه قدم لهم على أنه «تراث».

لكن هل علينا أن نعتبر وجهة نظر «بروك» قاعدة؟ أعني أن الطقس، أي طقس، يفقد أهميته ومغزاه وجماله حين ينقل من فضائه الطبيعي إلى فضاء مسرحي، وتمتد اليه يد الفنان ومهارته وخبرته؟.

النظرة الطائفية للواقعة، حسب رأي مهتمين بمسرح التعزية، أسهمت في إضعاف القوة الفكرية والجمالية لإنتاجها درامياً، ورغم أن بعض البلدان في منطقة الشرق الأوسط دأبت على تقديم مسرحيات التعزية: إيران ولبنان والعراق نموذجاً، فإن هذا التقديم ارتبط جدلياً بحضور المذهب الشيعي في هذه البلدان.. ويبدو الخلاف الطائفي كثيفاً في التعامل مع الواقعة.

دراما التعزية: استثناء لقاعدة غياب المسرح
 
13-Nov-2008
 
العدد 51