العدد 51 - ثقافي
 

علي بدر

في كتابه "عالم ألبير كامو الواسع" الصادر عن دار غاليمار بباريس هذا العام، يتحدث فرانسو ديون عن عالم ألبير كامو، وهو عالم الجزائر في النصف الأول من القرن العشرين، بتياراتها الأدبية، وثقافتها، وحياتها الاجتماعية، وأحداثها السياسية، وقد مثّل فيها كامو التيار المتوسطي إلى جانب تيارين كانا يهيمنان على الحياة الأدبية هناك: التيار اللاتيني، والتيار «الجزائراني».

الأول الذي كان استعمارياً، مثّله لويس برترون، حيث ربط الجزائر بفرنسا من خلال تاريخ لاتيني مشترك، وأصر على إثبات هوية لاتينية للتاريخ الجزائري. أما الآخر فاستهدف فصل الجزائر عن كل محيط لها، واعتقد بوجود ثقافة مستقلة لها.

غير أن أعمال كامو الروائية والفكرية تكرس النزعة المتوسطية للجزائر، فالمتوسط هو خصائص حضارية وليس موقعا جغرافيا، وهو انتماء يختلف في تكوينه عن الحياة الأوروبية. هذا الموقع يكتسب أهمية خاصة، من خلال تناقضه مع الجنوب الإفريقي والشمال الأوروبي. وقد حاول كامو في جميع كتاباته قراءة الأثر المتوسطي فلسفياً وثقافياً وحضارياً واجتماعياً والوصول إلى الثنائية المتوسطية في الفكر والحياة، والتي وصل لها الإغريق من قبل: الموقف الوسط بين الاعتدال والتشكك. وبدلاً عن النزوع نحو المطلق تتحول فكرة العبث إلى نزوع نحو الحياة، وبالتقابل مع نزعة العبث والتمرد هنالك الجسد، واللذة الحسية، وهو تعريف للحدود المتعارضة بين رهبة الموت وحب الحياة والتي تنتج الأضداد: الشمال والجنوب، الخير والشر، الجمال والقبح، الفقر والغنى، الشمس والظل، المنفى والملكوت.

وُلد كامو في قرية مدنوفي بولاية قسنطينة بالجزائر في العام 1913، لعائلة من المستوطنين الفرنسيين، كان والده لوسيان كامو عاملاً زراعياً فقيراً، قتله الألمان في الحرب العالمية الأولى. أما أمه كاترين، فهي ذات أصل إسباني، عملت خادمة في بيوت الأغنياء، تغسل الملابس، وتنظف. عاش كامو في حي «بلكور»، أفقر أحياء الجزائر العاصمة.

حصل كامو على إجازته في الفلسفة من جامعة الجزائر في العام 1935، وفي العام التالي قدم بحثه في الأفلاطونية الجديدة. قبل ذلك، عندما كان في السابعة عشرة من العمر أصيب بمرض السل، لكن هذا لم يمنعه من مواصلة حياة كاملة مفعمة بالنشاط، فقد استكمل دراسة الفلسفة وانضم إلى الحركة المناهضة للفاشية في العام 1932، وانضم للحزب الشيوعي في العام 1934، لمساندة الوضع السياسي في إسبانيا (والذي أدى إلى الحرب الأهلية الإسبانية)، وشارك في نشاطات شيوعية جزائرية تنادي بالاستقلال. لم يَرُق ذلك لرفاقه في الحزب الشيوعي الفرنسي الذين وصموه بالتروتسكية، الأمر الذي عزز انفصامه عن العقيدة الستالينية.

في العام 1934 أنشأ المسرح العمّالي، وأخرج عدداً من المسرحيات فيه، ومثّل في أخرى. وبعد فترة عمل قصيرة تمرد على الحزب الشيوعي، رافضاً مبدأ العنف من الأساس، ورافضاً إخضاع سلطة الحق إلى سلطة الظروف، غير أن رفضه للفكر الشيوعي كعمل سياسي لم يباعد بينه وبين الفكر الاشتراكي الذي آمن به.

أصدر كتابه الأول «الظهر والوجه» في العام 1937 تحت وطأة المرض، وهو لم يتجاوز الرابعة والعشرين بعد، وفي العام نفسه أصدر كتاب «أعراس»، كما كتب مؤلفاً فلسفياً بعنوان «الجزر»، أبدى فيه تأثره بأستاذه غرينييه. بعد ذلك بدأ سلسلة من الأعمال التي أجبره وضعه الاقتصادي الفقير على امتهانها: عمل بائعاً لقطع الغيار، وراصداً في مرصد فلكي جنوب الجزائر، حيث تعرف هناك على البربر وقبائل البدو، وطغى ذلك على أجواء مجموعته القصصية «المنفى والملكوت»، ثم عمل كاتباً في مأمورية للشرطة، ورأى خلال ذلك الجزائر الحقيقية: الفقر والبؤس. ثم واصل عمله الصحفي مصطدماً بالسلطات الاستعمارية، ففي العام 1939 أصبح رئيس تحرير صحيفة مسائية، كانت الوحيدة التي تتحدث باسم اليسار في الجزائر، فشن حرباً ضارية على السلطات الرسمية، وفضح ممارسات القمع والاضطهاد، فأحدثت مقالاته تأثيراً كبيراً في الشباب في المستعمرات الفرنسية.

بعد الاحتلال الألماني لفرنسا في الفترة الأولى من الحرب العالمية الثانية، كان كامو من دعاة السلام والنضال السلمي، غير أنه تحول إلى الكفاح مباشرة، بخاصة بعد أن أعدم النازيون غابرييل بيري، فتبلور موقفه من المقاومة ضد الاحتلال النازي، وانضم إلى خلية «الكفاح»، وعمل محرراً لصحيفة تحمل الاسم نفسه في العام 1942، وهي صحيفة المقاومة التي يتم تداولها بطريقة سرية. بعد ذلك انتقل إلى مدينة بوردو، وكتب في ذلك العام روايته الشهيرة «الغريب»، وأصدرها عن دار غاليمار بتشجيع من أندريه مالرو. وفي العام التالي أصدر كتابه الفلسفي الشهير «أسطورة سيزيف». حظي الكتابان بشهرة واسعة، وبردود فعل كثيرة في فرنسا، كما تُرجما إلى لغات عدة. وفي العام 1944 كتب مسرحيته الشهيرة «سوء تفاهم»، وعُرضت على خشبة المسرح بعد التحرير، ثم عرض مسرحية «كاليغولا» التي دان النازية من خلالها، بوصف النازية تعبيراً عن العنف الدموي وعبادة القوة.

مع نهاية الحرب، ظل كامو رئيساً لتحرير صحيفة «الكفاح»، إلى أن فقدت مغزاها النضالي، وأصبحت صحيفة يومية، فتخلى عنها في العام 1947، وتقرب من دائرة جان بول سارتر، وصار أحد أعضاء حلقته الشهيرة في «السان جرمان دوبريه». قدم محاضرات عدة عن الوجودية. ورغم أنه حُسب على اليسار السياسي، إلا أن نقده الشديد للدكتاتورية الستالينية أكسبته عداء الشيوعيين، وأبعدته عن سارتر.

توفي كامو في حادث سيارة في 4 حزيران/يونيو 1960، بعد أن كان كتب ذات مرة أن أكثر موت عبثي يمكن تخيله هو الموت بحادث سيارة.

عالم ألبير كامو وتياره المتوسطي
 
13-Nov-2008
 
العدد 51