العدد 8 - ثقافي | ||||||||||||||
الشق الأول من السؤال يأتي على شكل تساؤل حقيقي حول الأسباب الكامنة وراء عدم وجود مكتبة موسيقية في الأردن تضم كل الموسيقى التي تم ابتكارها على أرض هذا الوطن من قديمها وحديثها. هل لأنه لا يوجد لدينا تراث يستحق التدوين أو التسجيل أم لأننا نفتقر للموسيقى المعاصرة التي تشنف لها الآذان؟ أم هل هذا لأن هناك تراثا موسيقيا بدويا قد تم فعلا تسجيله ولكنه ضاع في أحد “الجوارير” (كما تقول الإشاعة)؟ أم لأننا نقف أمام استهتار حقيقي من طرف القطاعين العام والخاص بالتراث الموسيقي الأردني وانكباب الجميع على “العجلة الاقتصادية” التي لن تدور كما يجب إذا افتقرت الأمة للمقومات الحضارية التي تؤهلها للشموخ؟ أما الشق الثاني من السؤال فهو احترازي لكثرة ما رأينا من اتجاهات ثقافية تدعو للفصل بين الخلفيات الاجتماعية المختلفة فترى الصروح الموسيقية في الأردن (على قلتها) مخصصة لجمهور معين ونابذة لجمهور آخر، وحتى إذا ما أتت اللحظة التي يعزم فيها أحدهم على توفير أول مكتبة موسيقية عامة وشاملة أن يضع في الحسبان رسم دخول واستخدام رمزي وزهيد – كما هو الحال في مكتبة الموسيقى التابعة لدار الأوبرا في مصر حيث رسم الاستخدام لغرفتي الاستماع والمشاهدة للفرد جنيه مصري واحد (حوالي قرش أردني!). هذا ثالث مقال أتناول فيه مفارقات بين التجربة الموسيقية المصرية والأردنية والاختلافات العميقة بين البنى التحتية الموسيقية في كلا البلدين والتي تؤهل أحدهما ليكون “أما للدنيا” بينما الأخرى ناعسة على ضفاف الحلم تطالع موسيقييها بسلبية عجيبة وهم يناضلون ويحاولون ويتعبون؛ فقد أمضيت حوالي الأسبوعين في “قاهرة المعز” في مناسبات موسيقية هنا وهناك كموسيقية بديلة. (وقد تحدثت في مقال سابق عن معنى هذا التعبير حديث العهد). واكتشفت أن هنالك عقلية مصرية كاملة متكاملة لدى الاقتصاديين ورجال الأعمال والصحفيين والكتاب والموسيقيين وأصحاب المحلات التجارية والخبازين تتنفس فيه هذه العقلية الثقافة وتحتضن الموسيقى وتستند إلى حضارة موغلة في التاريخ، بينما نعتمد التجزئة في الأردن: هنا ملف الثقافة ولا علاقة له بالاقتصاد، هنا ملف الاقتصاد ولا علاقة له بالموسيقى، هنا ملف الشعر ولا علاقة له بالتعليم، هنا ملف الحضارة ولا علاقة لها بالنهضة الاقتصادية. تتكاثر هذه الأسئلة وتتعاظم عند دخول مبنى المكتبة الموسيقية التابعة لدار الأوبرا المصرية، التي تؤرخ كل أغنية ونفس أخذته الست أم كلثوم وغيرها من عظماء المرحلة، بينما لديها تسجيلات صوتية وبصرية حية لأحدث فرقة موسيقية مصرية بدأت مؤخرا بالحصول على شهرة جماهيرية في أنحاء البلاد الفرعونية بالرغم من أن موسيقاها مختلفة وبديلة، وهي فرقة “وسط البلد.” كدت أجهش بالبكاء عندما رأيت أن صرحا تقليديا كهذه المكتبة يعترف بهذه الفرقة كجزء من التطور الموسيقي المصري من خلال توفيرها تسجيلات حية لحفلاتها تؤرخ فيها لمسيرتها حتى قبل أن تطلق هذه الفرقة الفرانكوعربية ألبومها الموسيقي الأول! نقف هنا أمام عقلية تحترم وتبصر وتحتضن الفن والفنان ولا تضطهده أو تحاربه أو لا تعترف به إلا إذا أصبح تجاريا ومنتشرا على نطاق أممي. نحن أمام عقلية مستنيرة لا متعالية تعرف قيمة الموسيقي والموسيقى. هل لدى وزارة الثقافة لدينا على أقل تقدير سجلا بأسماء الفرق الشابة في الأردن أو أي نوع من أنواع التأريخ لها؟ لا، فهذه الفرق تظهر وتختفي في سماء الأردن كغيوم وضباب ولا يدري عنها أحد ولا مؤرخ لها ولا مكتبة موسيقية محتضنة لأعمالها! وعودة إلى الإشاعة آنفة الذكر حول عمل توثيق للتراث الموسيقي البدوي الذي اختفى في أحد “الجوارير” كما قيل لي من أحد المشاركين في مؤتمر صغير حصل قبل عامين في مدينة البيضا والبعيدة حوالي 10 كيلو مترات عن مدينة البتراء الوردية. أحد توصيات المؤتمر الذي حضره ملحنون وموسيقيون ومهتمون بالفنون كان توثيق التراث البدوي ثم نشره حتى يتسنى للأردنيين وغيرهم الاطلاع على هذا المكنوز الهام، وتم فعلا القيام بذلك من خلال تسجيل أهازيج ودَحّيات من شمال البلاد إلى جنوبها، ولكن هناك من “سلبط” على المشروع وأخفاه في أحد الأدراج في أحد الهيئات لأسباب يجهلها الكثيرون. إذا ما استخلصنا هذه التسجيلات من الشخص المسؤول وأضفنا إليها الأعمال الموسيقية الدرامية والمعاصرة لطارق الناصر ووليد الهشيم وطلال أبو الراغب والأعمال القديمة لفرق موسيقية شبابية وصلت ذروتها في منتصف التسعينيات. (وبالطبع لم تعد موجودة لصعوبة مواصلة المشوار الموسيقي) لفرق مثل “إيثيريال” و “بلاك آيرس” و “باترفلاي كيس” و “بيكاسو”، بالإضافة إلى أعمال فرقة “تايجرز” التي اشتهرت في أوائل التسعينات وفرقة “ميراج” الشهيرة وأغاني مصطفى شعشاعة ومن هم أقدم منه مثل سميرة العسلي وعبده موسى وجميل العاص وسلوى، وأضفنا إليها الأعمال الموسيقية المعاصرة على تنوعها لـ “مكادي نحاس” (إعادة إحياء تراث) و”يزن الروسان” (تعليق اجتماعي أردني ساخر) و “عزيز مرقة” (إعادة تشكيل هوية أردنية موسيقية ودمج موسيقي) وكاتبة هذا المقال (روحاني ودمج موسيقي) و”سوسن حبيب” (تخت شرقي معاصر) و “زمن الزعتر” (جاز شرقي) و”أيمن تيسير” (إعادة إحياء تراث عربي مع جاز) و “متعب الصقار” (بدوي أردني حديث) و “عمر الفقير” (جاز شرقي) وبالطبع نضيف إلى القائمة “عمر العبداللات” و”ديانا كرزون” و “أمل شبلي” و “أحمد عبندة.” إذا تسنى لنا جمع أعمال كل هؤلاء، فإننا لا بد وسنحصل على مكتبة موسيقية سمعية وبصرية معتبرة يمكننا الانطلاق منها لعمل الدراسات وتثقيف الأطفال وإفساح المجال أمام المراهقين الباحثين عن الهوية الموسيقية والثقافية للاطلاع على ما لدى بلادهم من موسيقى بأنواع موسيقية مختلفة ومن سنوات سبقت ولادتهم – ليصيبهم ذاك الإحساس الذي نفتقر إليه كثيرا وهو أن لديهم جذورا موسيقية وأنهم ينتمون لوطن فيه أصوات جميلة وألحان مبتكرة وعقول موسيقية إبداعية. الموسيقي في عمان والعقبة والبادية والشمال يحيا ويموت وتذهب معه موسيقاه إلى القبر، لذلك حان الوقت لتوثيق ما يحصل في الأردن موسيقيا من خلال تشييد أول مكتبة موسيقية أردنية شاملة تعيد للأردن اعتباره الموسيقي وتنهض به من جهل أصحابه بما لديهم. |
|
|||||||||||||