العدد 50 - كتاب | ||||||||||||||
بالرغم من أن أزمة الرهن العقاري التي انطلقت شرارتها الأولى في الولايات المتحدة وانتشرت جذوتها الى سائر بقاع العالم المتقدم، كانت المحرك الظاهري للأزمة المالية العالمية التي يشهدها العالم الآن، فإن المتتبع لمجريات الأمور تاريخيا يجد من الإنصاف القول إن قطاع التطوير العقاري بات يعتبر الضحية قبل أن يوسم بالجاني المتسبب في انهيار الأسواق على المستوى العالمي. فإرهاصات الأزمة المالية العالمية لم تبدأ بالأمس القريب، كما يظن البعض، وانهيار بعض المؤسسات الدولية خلال الشهر المنصرم، بدءاً ببنك ليمان برذرز، لم يكن نتاج أو محصلة أعمال هذا العام، أو حتى الأعوام القليلة الماضية، كما أنه لم يكن محصلة التورط أو الانكشاف الزائد على قطاع التطوير العقاري. والمتتبع لحيثيات الانهيار المالي العالمي يعي أن معطيات الأزمة بدأت منذ بداية القرن الحالي، والذي شهد مطلعه انهيار شركات كبرى كإنرون (أيلول/سبتمبر 2001)، وورلدكوم (تموز/يوليو 2002). فالبركان الذي نفث حرائقه منذ نهاية شهر أيلول/سبتمبر الماضي حتى اليوم، بدأ يغلي منذ بداية القرن بفعل محركات عدة على رأسها استغلال الإدارات التنفيذية في الشركات المالية الكبرى للأوضاع العالمية، بهدف تحقيق عوائد غير مسبوقة والحصول على حوافز مغرية. وقد دخلنا العقد الأول من الألفية الثالثة بأسعار فائدة منخفضة للغاية، وسيولة متراكمة وهائمة تبحث عن فرص، ودائنين وجدوا روافع داخل أسواقهم وخارجها، وأصول ترتفع أسعارها دون مبرر منطقي، وسخونة مالية ونقدية أخذت بالتفاقم بمعدلات وهمية، وانتهى الأمر بفوران بركاني يقذف بشرره على كل من في مداره. والحقيقة التي عززت من ذلك كله تكمن في أن الأزمة المالية نتجت عن سوء إدارة النظام العالمي الذي سيطر عليه منذ نهايات القرن المنصرم أتباع مدرسة شيكاغو بليبرالية زائدة اعتمدت على اليد الخفية غير المنضبطة، فميعت دور الدولة في الرقابة وضبط الأسواق، وتركت للمدراء التنفيذيين في الشركات الكبرى حق التصرف بأموال الغير، وفقا لميكيافيلية اقتصادية تبرر كل الوسائل للوصول الى هدف تحقيق العوائد، التي تؤدي الى حصولهم على أكبر الحوافز. وقد أشار الاقتصادي جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد لعام 2000، الى أن «الأسواق غير الخاضعة لأي رقابة يمكن أن تقود الى كارثة». والحقيقة أن الأوضاع التي نشهدها اليوم هي كارثية بكل ما للكلمة من معنى. ولما كانت العولمة، بنذرها المختلفة، قد حولت العالم الى قرية صغيرة كان من الطبيعي أن تنتشر الفوضى في سائر أرجاء القرية، لتنال تبعات البركان التي تمثلت في خسارة تريليونات الدولارات كل من انفتح على أسواق القرية. بهذا التوصيف دخل قطاع التطوير العقاري خضم التجربة العالمية، ففي ظل أسعار فائدة منخفضة وتقلبات في العملات العالمية والخوف من فقدان القيمة الحقيقية للمدخرات، ظهرت مشتقات التطوير العقاري على الساحة لتغطي فجوات عدة لدى المستهلك العادي والمستثمر المتحمس. فكانت بداية النظر الى المشتقات العقارية، السكنية والخدمية والتجارية والصناعية، على أنها المخزن الأفضل للقيم والوسيلة الأنفع للاكتناز. وزاد الأمر سخونة استعداد المؤسسات المالية، وعلى رأسها البنوك، لتمويل تلك المشتقات بكلف متواضعة، وبات انتقال عبء الدين من شخص الى آخر في متناول الجميع، وتطور الأمر الى نقل عبء مديونية والتزامات المؤسسات المالية بين بعضها بعضا من خلال استحداث، أو ابتداع، مشتقات مالية جديدة على شكل سندات وتوريق تم تداولها وتحميلها عوائد متراكمة على أصول تضخمت قيمتها النقدية دون أن ترتفع قيمتها الحقيقية، بل إنها في مجملها، وبصفتها أصولا عقارية، خاضعة للاهتلاك Depreciation مع مرور الوقت وليس لزيادة القيمة Appreciation، ولأن مشتقات ومنتجات التطوير العقاري هي الأكثر منطقية، كأصول وموجودات، لتوريقها وتسنيدها، فقد بدا ذلك القطاع الجاني والمتهم الأول في توليد شرارة البركان العالمي، وتناسى الجميع سوء النوايا ومكر الفاعلين والمتلاعبين من المدراء التنفيذيين والماليين الذين اقتنصوا الفرص لنقل عبء الديون التي تورطوا بها الى الطامعين بالربح السريع والعائد غير المنطقي في الجانب الآخر من العالم. وقد أشارت الدراسات الأولية الى أن أزمة الرهن العقاري التي اشتعلت جذوتها في أميركا ارتكزت إلى تورط المؤسسات المالية بسوق وصل حجمه الى ما يزيد على 21 تريليون دولار، معظمها مُوّلت من خلال قروض لم تراع أسس الملاءة المالية أو الضمانات الكافية. وفي ظل الدورات الاقتصادية التي تشهدها الاقتصادات العالمية وتراجع مستوى النمو الكلي في الولايات المتحدة، مقابل تحسن الأوضاع في دول كالصين والهند وغيرهما من الأسواق الناشئة، تراجع الوضع الاقتصادي الكلي في الولايات المتحدة ليخلق ضعفا حقيقيا في القوة الشرائية للمواطن، وعدم القدرة على سداد أقساط القروض العقارية، وبخاصة أن كثيرا من القروض غطت مشتقات عقارية بقيم تجاوزت أضعاف القيمة الحقيقية لتلك العقارات. ونتج عن ذلك تعثر ما يزيد على ثلاثة ملايين ونصف المليون قرض عقاري وتراجع في قطاع التطوير العقاري راوح بين 3-30 بالمئة في بعض الحالات. والخلاصة على المستوى العالمي، أن أزمة القروض العقارية التي توسعت لتصل نحو 700 بليون دولار، انتقلت عدواها الى سائر القطاعات، ليس فقط بسبب حجم الانكشاف بين المؤسسات المالية عالميا واعتمادها المتبادل على بعضها بعضا في نقل العبء والطمع في العوائد، بل أيضا بسبب تشابك قطاع العقارات أماميا وخلفيا مع قطاعات عدة؛ خدمية ومالية وصناعية وتجارية. فالتراجع الذي أعاد القطاع الى الصواب ضرب بعنف سائر القطاعات الأخرى في شتى دول العالم، التي لم يخل معظمها من الارتباط بقطاع التطوير العقاري على المستويين المحلي والدولي. وبالانتقال إلى الحالة الأردنية، فإن المتتبع لمعطيات الأمور، يلاحظ أن التطوير العقاري شهد طفرة نوعية خلال السنوات الأربع الماضية، وتعاظم دوره الكلي في ظل تواضع العوائد في فرص الاستثمار الأخرى، ناهيك عن الدور المشجع لأسعار الفائدة والاقتراض خلال السنوات المنصرمة، وقد استنفد القطاع حصته الكاملة من نسب التمويل البنكي، حيث وصل نحو 20 في المئة من إجمالي التسهيلات الممنوحة من قبل الجهاز المصرفي في العام المنصرم. بيد أن السياسات التحفظية التي انتهجها البنك المركزي في مجال منح الائتمان وفق مقررات بازل 2، وتلك التي انتهجتها هيئة الأوراق المالية الأردنية بعدم السماح باستحداث أو ابتداع مشتقات مالية في مجال توريق الديون وتسنيدها، تمكنت من ضبط إيقاع القطاع وجنبه دور الجاني أو المسبب للأزمات في الاقتصاد الوطني. كما أن تقييد حرية التصرف لغير الأردنيين في مشتقات التطوير العقاري منعت المضاربين من التفكير في تسخين القطاع والولوج الى السوق الأردنية على النسق الذي شهدته دول مجاورة في الخليج العربي وغيرها. وعلى الرغم من ذلك فمن الإنصاف الإشارة الى أن القطاع ساهم، بشكل مباشر وغير مباشر، وعبر تشابكه مع قطاعات المال والخدمات الهندسية والخدمات السياحية والصناعة والتجارة وغيرها، في حفز النمو المحلي، وكان مولدا رئيسيا للدخل والوظائف على المستوى الوطني. أما بالنظر الى أثر الزلزال المالي العالمي الحالي على قطاع التطوير العقاري، فيمكن للمرء النظر الى ذلك من عدة زوايا سلبية وايجابية. فمن ناحية، يبدو أن المشاريع الكبرى التي دخلت الى الأردن ممولة برؤوس أموال عربية وأجنبية ستشهد تباطؤا محسوبا بمستوى انكشاف تلك الأموال للأزمة العالمية، ومن الواضح أن منطقة الخليج العربي، منبع تلك الاستثمارات، تشهد تأثرا كبيرا بمعطيات الأزمة العالمية، بل إن البعض يقدر أن الصناديق السيادية في الخليج العربي والمستثمرين الأفراد استحوذوا على نصيب كبير من الأزمة المالية العالمية، وتأثرت محافظهم المالية بذلك بشكل جوهري. وقد انعكس ذلك جليا على أسواق المال الخليجية دون استثناء. وعليه فمن المتوقع أن يتأثر حجم تنفيذ المشاريع العقارية المحلية المرتبطة بتلك الاستثمارات بتباطؤ نوعي. وعلى صعيد آخر فإن الاستثمارات المحلية، وفي ظل التحفظ الزائد الذي يكتنف الجهاز المصرفي الأردني، ستعاني من حالة الترقب وشح مصادر التمويل المحلي، ما يعني عدم القدرة على استكمال تلك المشاريع وفق الخطط المبرمجة لها. وتتقاطع مع هذا كله آثار إيجابية مرتبطة بتوقع انخفاض أسعار المواد الأساسية وأسعار النفط، ما يعني زيادة القوة الشرائية للمواطن العادي من ناحية وانخفاض كلف تنفيذ المشاريع الجديدة من ناحية أخرى. ولما كان العقار والأراضي، بالمفهوم الأردني، مخزنا دائما للقيم، وفي ظل الهزات المتعددة التي شهدها الاقتصاد حديثا في مجال ما سمي بالبورصات العالمية وفي مجال الاكتتابات الأولية في الشركات الجديدة، فإن من المتوقع أن ينعكس ذلك إيجابا على سوق التطوير العقاري الأردني، وأن يتعافى ذلك القطاع من كبوته في وقت قد يكون اقرب مما نتوقع جميعا. وفي الختام، فإن الجو العام للأزمة المالية الحالية يدعو للتفاؤل أردنيا على الصعد كافة في الاقتصاد الكلي والجزئي للبلاد، والمطلوب أن نخفف بوعي وبدراسة التحفظات الزائدة في مجال السياسات الكلية المالية والنقدية والتجارية، لنغدو منتفعين من أزمة حركها سوء الإدارة وضعف الحاكمية الرشيدة في الإطار العالمي، فالتحفظات الزائدة في تلك السياسات ستدخل الأردن باب التأثر بنتائجها غير المنعكسة على البلاد، ويحرمنا من اقتناص فرصة قوة الاقتصاد وقدرته من تحويل التحديات الى فرص ناجعة. |
|
|||||||||||||