العدد 50 - أردني | ||||||||||||||
السّجل - خاص منذ مدة والعالم يتساءل: لماذا كلما تعطس الولايات المتحدة يصاب باقي العالم بالزكام؟ كانت هذه الظاهرة قد لوحظت بشكل قوي العام 1929، أي بعد عشر سنوات من انتهاء الحرب العالمية الأولى. وكان الاقتصاد الأميركي قد شهد خلال تلك الفترة ثراء واضحاً وانتقالاً لجزء مهم من ثروات أوروبا والعالم إليها. كانت سنوات ما قبل الانهيار العام 1929، قد شهدت انفجاراً وتهافتاً على شراء الأسهم بدون رادع. وقد ساعد غياب الأنظمة الرقابية والتوسع في المديونية لشراء الأسهم بكفالة الودائع تحت الطلب والنظام الهرمي المصرفي حيث تودع البنوك الصغيرة لدى البنوك الأكبر منها حتى تنتهي الأموال في مصارف نيويورك الكبرى، وكذلك غياب الرقابة والنظم الفاعلة لها في فتح الباب على مصراعيه لتغذية هذا البالون الكبير. ولما وقعت الأزمة انتقلت عدواها بسرعة إلى أسواق المال الأخرى في العالم. وهكذا استمر الانهيار حتى أحاط بكل العالم. ولم ينقذ العالم من أزمة الكساد الكبير إلا الحرب العالمية الثانية وعودة الاقتصاد الأميركي إلى سابق عهده. ويمكن ملاحظة أن كل الأزمات التي أدت إلى الكساد الكبير قد نتجت، في الدرجة الأولى: إما عن الولايات المتحدة، أو بسببها، أو لكلا الأمرين معاً. وحتى ارتفاع أسعار النفط الذي شهدناه في العام 2004 واستمر حتى منتصف العام 2008 نتج بداية عن الاضطرابات في الدول المصدرة للنفط للولايات المتحدة مثل: فنزويلا، والمكسيك، ونيجيريا، أو بسبب الخلل بين العرض والطلب على المشتقات النفطية فيها، ثم انتقلت عدواها بعد ذلك إلى بقية أسواق العالم. وعلى أي حال، فإن الولايات المتحدة التي ما تزال تشكل أكثر من ربع اقتصاد العالم وتستورد حوالي ربع إنتاج الدول في شرق وجنوب شرق آسيا، قد صارت قطب الرحى أو حجر الميزان، فإذا اختلت اختل معها الميزان الاقتصادي الدولي. وهذه الديناميكية التي يحتلها الاقتصاد الأميركي صارت نعمة أيام الطفرة ونقمة كبرى أيام التراجع ولكن حالة التطاير volatility التي يعاني منها الاقتصاد العالمي يجب أن تواجه. واليوم يدور جدل عنيف حول طبيعة الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم. ولكن هنالك إجماعا على بعض الحقائق الأساسية فيها ونقاط الالتقاء المتفق عليها يمكن إيجازها على النحو الآتي: - أن الأزمة ابتدأت في الولايات المتحدة. ومن دون السعي لتحديد الجهة التي يقع عليها اللوم، فإن الكل متفق على أنها أصابت مختلف أقطار العالم بدرجات متفاوتة. ويبدو أن درجة التأثر بها قد أصابت الدول الأكثر انفتاحاً على العالم والأكثر اقتراباً من نظام السوق الحرة بدرجة أشد من الدول التي لم تنفتح على العالم، ولم يتخل القطاع العام فيها عن أدواره المختلفة، وبخاصة التنظيمية منها. - أن ارتفاع أسعار السلع لم يكن المسبب الرئيسي للأزمة، ولكن الأزمة كانت في القطاع النقدي، حيث إن الأرصدة المسمومة والديون المشكوك فيها والرهونات العقارية غير الكافية هي التي سببت الفزع من انهيار المصارف الكبرى، وتراجع أسعار الأسهم في البورصات، والسعي لسحب الودائع وتسييل الموجودات في المحافظ المالية هو الذي شحن الأجواء. والنذر السيئة في سوق السلع لا تسبب الهلع والخوف، لأن بالإمكان حلها ولأن طبيعتها قابلة للصمود أمام فحص الزمن الحامضي. أما الانهيار والتراجع على الجانب النقدي فهو أشبه بالنار في الهشيم. - الاتفاق على أن الحل السريع يجب ألا يبقى حبيساً للأيديولوجيا الاقتصادية، فإذا كان الحل يقتضي تدخل الحكومات، وزيادة دورها، وإعادة مشاركتها في مؤسسات القطاع الخاص، وتحملها لمزيد من الإنفاق، ولو على حساب تفاقم العجز المالي، وإعادة النظر في النظم والتشريعات والسياسات الضابطة للعمل الخاص والبنوك، فإن هذا لا يهم. والأولوية يجب أن تعطى للحل السريع. هنالك اتفاق على أن هذه الأزمة يجب أن تحل فورا من قبل جميع القوى والدول الاقتصادية في العالم بمجمله. - في المقابل، هنالك من يرى أن الأزمة قد وضعت نهاية للهيمنة الأميركية على رأس الهرم العالمي كما يرى الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف ورئيس وزرائه فلاديمير بوتين. ويرى آخرون أن هذه نهاية الأيديولوجية الرأسمالية الصرفة القائمة على أفكار آدم سميث. ويشارك هذا الرأي، إلى حد ما مفكرون اقتصاديون بارزون مثل جوزيف سيتجلتز، الحائز على جائزة نوبل، والذي عمل نائبا لرئيس البنك الدولي وكبير الاقتصاديين فيه. ويرى آخرون أن من المبكر حاليا إجراء أي تنبؤات حول تراجع دور الولايات المتحدة أو انهيار النموذج الرأسمالي كما عرفناه خلال العقود الثلاثة الماضية. ولعل الرأي الأكثر معقولية هو ما يقوله اقتصاديون مثل روبرت منديل، الحائز على جائزة نوبل والأستاذ في جامعة كولومبيا، حيث يؤكد منذ سنوات أن العالم مقبل على 3 مناطق للعملات وهي: الدولار واليورو واليوان الصيني. أما فيما يتعلق بالنموذج الاقتصادي الرأسمالي، فإن مدير عام صندوق النقد الدولي يرى أن الوقت قد حان للاعتراف بأن دور القطاع العام يجب أن يخضع للمراجعة، وأن العولمة الاقتصادية لم تكن كلها خيرا، وبخاصة وأنها أممت وعممت التكاليف والآلام وخصخصة الأرباح والفوائد. في العام 1958، أجرى إدموند فيليبس دراسة على الوضع الاقتصادي للمملكة المتحدة خلال الفترة 1861-1957، فوجد أن بين التغير في الأجور النقدية والتغير في نسبة البطالة، علاقة سلبية. وعزّز هذه الدراسة كل من سامويلسون و سولو حين أكدا أن ثمن تقليل نسبة البطالة هو ارتفاع نسبة التضخم، والعكس صحيح. في السبعينيات من القرن الماضي، أوضحت دراسات أجراها كل من فريدريك فون هايك، ومن بعده إدموند فيلبس، وكلاهما حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، أنه على المدى الطويل، هنالك معدل طبيعي للبطالة، وبخاصة إذا ما قيست بالأجور الحقيقية وليس النقدية، فإن منحنى فيليبس يتحول إلى خط عمودي، وهو ما أكده ميلتون فريدمان في العام 1974. إن هذا يعني أنه، على المدى الطويل، لا توجد مقايضة بين التضخم والبطالة، وأن منحنى فيليبس الذي كان منحدرا وسالبا، أعطى للحكومات الفكرة بأن زيادة الأجور سوف تقلل من نسبة البطالة، وهو أمر يرفضه الكلاسيكيون والكلاسيكيون الجدد، الذين قالوا إن منحنى فيليبس الجديد هو أقرب إلى تفسير ظاهرة "الكساد التضخمي" أو "Stagflation" الذي يجمع بين الكساد والتضخم. وقد عزز هذا التوجه عدة تطورات أساسية أبرزها: - المديونية العالمية التي استثمرت لإبراز هشاشة النظم الاقتصادية القائمة على التدخل الحكومي. - سقوط جدار برلين، وتفتت الاتحاد السوفييتي، ما فتح باب الهيمنة للمدرسة الثاتشرية والريغانية Thatchersism & Reaganomics بمفهومهما الكلاسيكي للاقتصاد الرأسمالي وتبني هذا النموذج من قبل المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين. - الانفجار التكنولوجي عبر الكمبيوتر والاتصالات، وبروز ظاهرة العولمة بقالب جديد لا غالب له، وتحويله من مظهر تكنولوجي إلى فرصة لفرض الأفكار السياسية Globalizations vs. Globalism. - هيمنة القطب الواحد سياسياً وعسكرياً واقتصادياً على المسرح الدولي بدون قوة مناوئة أو معادلة على الطرف الآخر. ولكن مع انتهاء القرن العشرين، ودخول العالم القرن الحادي والعشرين بدأت تظهر التصدعات في النظام الرأسمالي. ومن أبرز مظاهر هذا التصدع:- - انتقال عبء المديونية العالمية الذي أفاق عليه العالم في منتصف الثمانينيات من الدول النامية إلى الدول المتقدمة، وبخاصة الولايات المتحدة. فبينما قدرت مديونية الدول النامية بحوالي تريليون دولار العام 1988، فإنها تقارب 12 تريليون في الولايات المتحدة وحدها. - تأثر هيبة الولايات المتحدة بأحداث 11/9، وتأكيد هشاشتها الأمنية الداخلية ومحدودية قدرتها على التحرك العسكري على الساحة الدولية باسم محاربة الإرهاب ومقابل تكاليف باهظة. - انفلات عقال الاستهلاك؛ حتى إن الاستهلاك القومي الأميركي فاق مجموع الدخل المتصرف به. أي أن الأسر الأميركية اعتمدت على التوسع في الاقتراض لتمويل مشترياتها. - انفجار وسائل وأدوات مؤسسات الاستثمارات المالية وتنوعها، وبخاصة في قطاع العقار، ما أدى إلى خلق ثروات افتراضية هائلة أمام الأفراد والمؤسسات، كان لها أثر كبير على التوظيف والاستهلاك، دون أن يصاحب ذلك زيادة مناسبة في الإنتاج، وهو ما أدى إلى توسع الاستيراد على حساب الدول الراغبة في التصدير للولايات المتحدة بأسعار منافسة وبخاصة الصين وكوريا واليابان وأسواق أخرى في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا. - بدأت مظاهر الإجهاد تغزو المؤسسات التي كانت تعتبر قلاعا صامدة داخل الاقتصاد الأميركي مثل مؤسسة إنرون Enron التي هوت وأسقطت معها آرثر أندرسون. وتلا ذلك سقوط مؤسسات تجارية وشركات الاستثمار الكبرى في نيويورك أمثال ليمان بروذرز و غولدن ساكس، وأخيرا وليس آخرا ميريل لينتش، التي اشتراها بنك أوف أميركا. وهنالك متاعب جمة في صناعة السيارات والشركات العملاقة الأميركية الثلاث في هذا المجال. - ارتفاع الأسعار العالمية للنفط ومواد البناء والمواد الغذائية الأساسية، وظهور الخلل الكبير في مجريات الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد النقدي، فبينما عانى قطاع الإنتاج من فائض في الطلب، بدا وكأن قطاع النقد يعاني من فائض في العرض. وهكذا تعززت الضغوط التضخمية أكثر وأكثر. وباستمرار هذه الظاهرة بدأ سوق العقار في التصدع فأحدث انهياره دويا في مختلف الجوانب الاقتصادية وانتقل الهم الاقتصادي من التضخم إلى التراجع. - صعود دول كثيرة إلى مصاف الدول سريعة النمو بمعدلات غير مسبوقة مثل الصين والهند ودول الخليج، والتي زاد الطلب فيها، ما أعطاها مزيدا من القوة التفاوضية على مستوى الاقتصاد الدولي. وصاحب ذلك كله استقلال القرار الروسي وشعوره بالتفوق بعد تجاوز الأزمة الحادة التي ألمت به خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وبداية تصدع الوفاق الأوروبي الأميركي. طبيعة الأزمة الاقتصادية: ليس هنالك اتفاق كامل بعد على أن ما نشهده في الوقت الحاضر هو أزمة مالية نقدية، أم أنه أزمة اقتصادية بكل أبعادها المختلفة. ومع أن البعض مثل بيرنانكه، رئيس البنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي، ما زال يستخدم كلمة تباطؤ وليس تراجع، فإن آخرين يرون أن العالم قد دخل في نفق التراجع الاقتصادي، ويذهب البعض الآخر إلى القول إن ما نشهده هو انهيار وكساد. ولكن المؤكد أن حصر نيران الأزمة المالية والمصرفية لن ينهي المشاكل بقدر ما سينهي حالة الفزع، ويأمل المتفائلون أنه إذا ما أعيد تحريك الاقتصادات الراكدة واسترجعت ثقة المستهلكين والمنتجين فإن تراجع أسعار النفط ومواد البناء والصناعات البتروكيماوية وأجور الشحن والطيران، فإن بعض القطاعات ستشهد بداية تحريك قد لا تطيل أمد التراجع الاقتصادي. وحتى هذه اللحظة فإن معظم اقتصادات العالم لم تشهد حتى الآن معدلات نمو سالبة، بل هبوطا في نسب النمو الإيجابية. وهذا ينطبق على معظم دول أوروبا وآسيا وشمال أميركا. والدول التي قد تحقق معدلات سالبة إذا لم تتحسن أسواق صادراتها هي اليابان وكوريا. وهنالك دول تعاني من مشكلات مزمنة أساسا ولا يؤخذ بظروفها كمؤشر على عمق الأزمة أو مدى التراجع الاقتصادي. |
|
|||||||||||||