العدد 50 - أردني | ||||||||||||||
محمد المصري ما إن بدأت الأزمة المالية الحالية في الولايات المتحدة، وتحولت إلى أزمة اقتصادية انتقلت عبر حدود الدولة إلى العالم، حتى بدأ حوار ديناميكي تناول أسباب هذه الأزمة وحدودها ووسائل علاجها، وتناول هذا الحوار الذي ما زال مستمراً مدى فعالية السوق الحرة، في ضبط العملية الاقتصادية بمجملها. انفجرت الأزمة أساساً بفعل التوسع في عملية الإقراض، إلى حدود أبعد مما يمتلك المقترضون فعلياً، وضمن سياسة إقراض غير خاضعة لرقابة داخلية من المؤسسات المقرضة او من الدولة نفسها، دون ضمانات حقيقية. ضمن هذه السياسات انغمس المقترضون في عملية استهلاكية فوق قدراتهم من ناحية، وخارج حدود إنتاجية الاقتصاد الكلي من ناحية ثانية. مع أزمة الرهون العقارية، وعدم قدرة البنوك على الاستمرارفي التمويل، أو عجزها عن تلقيها للأقساط المستحقة. في هذه الأجواء تعرض عنصر الثقة، وهو عنصر أساسي في نظام حرية السوق، إلى هزة عنيفة دفعت المواطنين إلى حالة من الهلع، ما أضاف بعداً آخر للأزمة. محاولة احتواء الأزمة ومعالجتها، تمت من خلال تدخل الحكومات المركزية، وعبر منحها أموالاً في البنوك المتعثرة، لتأمين السيولة لوقف تدهور الثقة وعدم دخول الاقتصاد في حالة ركود. لا تعني الأزمة الاقتصادية الحالية انهيار النظام الرأسمالي. فما زال في جعبة الحكومات وسائل واجراءات لضبط الأزمة الاقتصادية، والحؤول دون تحولها إلى مرحلة كساد شبيه بالكساد الكبير (1929 - 1933). إجراءات مثل ضخ مزيد من الأموال، القروض، التفاوض حول شراء قروض، تأميم مؤسسات محددة، والدخول في الاقتصاد كمستثمر، في المجالات التي تؤدي إلى ضبط معدلات البطالة بحدود معقولة هي حلول ضمن الآلية الرأسمالية نفسها. إلا أن الأزمة الاقتصادية الحالية وسرعة امتدادها، أثار حواراً حول قدرة اقتصاد السوق الحر على تنظيم نفسه وحول دور الدولة في الاقتصاد. أدى هذا الحوار، وبسرعة كبيرة، إلى إعادة النظر جوهرياً في مفردات سادت خلال العقود الثلاثة الماضية، وكانت أقرب إلى مسلمات إيمانية بأن السوق الحر قادر على ضبط إيقاع الاقتصاد وبشكل عقلاني، وأن لا حاجة لتدخل الدولة في الاقتصاد. وقد بعث الحوار، وما زال، الحياة في أدبيات ونصوص تحليلية، ذات علاقة بالاقتصاد الرأسمالي ودور الدولة في هذا الاقتصاد. ففي حين أن الرأسمالية الأرثذوكسية المعتمدة على الحرية المطلقة لآليات السوق تأثرت بتجربة التحول الرأسمالي في الأراضي المنخفضة في أوروبا وفي بريطانيا، كما نظر لها ادم سميث في 1776، فقد اعتمدت مبادئ تقوم على أن السوق تتضمن آليات داخلية من شأنها تنظيم وضبط العملية الاقتصادية برمتها بما في ذلك الإنتاج والاستهلاك والربح، وعلى ان هذه المبادئ، هي الأدوات السحرية التي تجعل السوق ذاتية التنظيم، بغير ما حاجة إلى تدخل "خارجي" لتنظيمها. عليه فقد حدد سميث دور الدولة في ثلاث مهمات: - حماية البلاد من الأخطار الخارجية. - المحافظة من خلال نظام قضائي على حقوق الأفراد. - النهوض بتنفيذ مشاريع عامة لا تخدم مصالح فرد بعينه (مثل الطرق والجسور وغيرها من بنى تحتية). إلا أن التبشير والترويج لاقتصاد السوق الحر ووجوب إقصاء أي دور للدولة، قد تعرض لنقد شديد. فعلى صعيد أول، كشف تحليل كارل ماركس لرأس المال في 1867، على أن الرأسمالية تتضمن في جوهرها تناقضاً داخلياً، يؤدي بها إلى الدخول في أزمات دورية، نتيجة الفشل في الترويج للسلع المنتجة، مما يؤدي إلى الانتشار الواسع للبطالة. ماركس شدّد على أن هذا التناقض الداخلي يتأتى من قواعد الرأسمالية نفسها وهي: الملكية الخاصة لرأس المال، وعدم وجود ضوابط تنظيمية للسوق. هذه الأزمات الاقتصادية تحمل في طياتها نذر انفجارات اجتماعية، بين من لا يملكون ومن يملكون. ماركس واشتراكيو القرن 19، عاينوا بأم أعينهم نظاماً غير انساني يقوم على استغلال مفرط للعمال، بمن فيهم الأطفال والنساء، من قبل رأس المال. فالخيار المتاح كان بين العمل بظروف وشروط الرأسماليين، أو الموت جوعا. على صعيد آخر أظهرت التجربة التاريخية، أن التحول للرأسمالية من خلال قوى المجتمع ودون تدخل الدولة، هو حالة التحول الرأسمالي في أوروبا الغربية، بينما شهدت العديد من مناطق العالم تحولاً للرأسمالية بمبادرة وقيادة الدولة. اي أن الدولة كانت عاملاً رئيسياً، في التغيير الاقتصادي والاجتماعي. إن تاريخ الرأسمالية هو بالفعل تاريخ أزمات اقتصادية. هذه الأزمات هي التي دفعت إلى إعادة تعريف دور الدولة في الاقتصاد. ففي إطار معالجة اثار انهيار سوق الأسهم 1873 والدخول في ركود اقتصادي في المانيا وبريطانيا، تدخلت الحكومات لإنشاء نظام اجتماعي وإصدار قانون اتحاد العمال في بريطانيا. هذا التدخل كان، من حيث الجوهر، تحدياً لمبدأ أرثوذكسية السوق الحر، وقد جاء لمعالجة الركود من جهة، واستجابة لمطالب الحركة الاشتراكية والعمالية من جهة ثانية. التحول البنيوي الذي طرأ على النظام الرأسمالي، أنتج الاندماجات بين الرأسماليات القطاعية (التجارية والبنكية والصناعية)، فالاحتكارات والخروج إلى العالم لضمان مزيد من تراكم رأس المال، أدخل حكومات الدول الرأسمالية في حروب شرسة للدفاع عن مصالحها الرأسمالية، ومن أجل توسيع رقعة نفوذها في العالم. ورغم تدخلية الدولة في الاقتصاد لمعالجة ركود القرن التاسع عشر ودخولها في حروب، فإن التغيير الجوهري في دور الدولة في الاقتصاد سيبدأ في العشرينيات من القرن العشرين. انهيار أسواق المال والأسهم، الدخول في مرحلة كساد، إغلاق مؤسسات صناعية مع نسب بطالة غير مسبوقة، حدت بالدولة لإعادة تعريف دورها في الاقتصاد لمعالجة الكساد والبطالة، وإعادة الثقة بالاقتصاد. اعتمدت هذه الدول على مبدأ دخول الدولة كلاعب أساسي في الاستثمار، في القطاعات التي انسحب منها القطاع الخاص، إضافة للدخول في مشاريع إنشائية كبرى للتصنيع أو البنى التحتية، وفي عملية التصنيع الحربي. هذه الإجراءات بدأت بتنفيذها العملي الحكومات الفاشية في إيطاليا وألمانيا ثم إسبانيا. أدت نجاعتها إلى مد أنظمة هذه الدول بشرعية استمرارها في الحكم. لم تقتصر هذه الخطط على الدول الفاشية، فالصفقة الجديدة (new deal) التي روج روزفلت لتنفيذها عند استلامه الحكم في 1933 هي، في جوهرها، مطابقة لخطط الفاشيين في إيطاليا والمانيا وأسبانيا. إلا أنها لم تطبق بفعل المعارضة الشديدة، من بعض الرأسماليين والمحكمة العليا. ما طبق منها وأدى إلى تدخلية الدولة في الاقتصاد، تمثل في إنشاء صندوق فيدرالي لضمان الودائع البنكية في ظل هذه التطورات دعا الاقتصادي البريطاني كينز، ومن خلال مراقبته لإجراءات تدخلية من قبل الدولة في الاقتصاد، لمعالجة الأزمة ونتيجة قراءته لتحليل ماركس للرأسمالية، إلى دور ضابط وتدخلي للدولة في الاقتصاد لتلافي الوقوع في أزمات جديدة. كينز أنكر فكرة أن السوق الحر ينظم نفسه ذاتياً، واعتبر أن على الدولة الدخول في مجال تنظيم السوق، عبر ضوابط وإجراءات تهدف إلى ديمومة استقرار سوق العمل. استقرار هذه السوق بالنسبة لكينز، هو حجر الزاوية لاستقرار النظام الرأسمالي. وعلى الدولة ومن ضمن مشروعاتها الاقتصادية العمل على لعب هذ الدور. لقد أخذت كثير من الحكومات بفرضيات كينز لمعالجة آثار الكساد الكبير، وتوسع هذا الدور التدخلي مع بوادر شبح الحرب العالمية الثانية، وانغماس الدول في التسابق على الإنتاج العسكري، هذا ما فعلته حكومة بريطانيا- التي قاومت نصائح كينز في البداية، فقد دخلت كمنتج لمعدات حربية، وما لبثت أن أممت مجموعة من الفعاليات الاقتصادية ذات القيمة الاستراتيجية مثل: مناجم الفحم والوقود والمواصلات. دور الدولة في الاقتصاد كضابط ولاعب أساسي في الاستثمار بالبنى التحتية، وفي مشاريع ما يسمى بـ"دولة الرفاه" لم يكن موضع سؤال او استغراب. وفي بريطانيا مهد رأسمالية السوق الحر فاز حزب العمال، ببرنامج انتخابي يعتمد هذا الدور للدولة. إن زيادة الأعباء الاقتصادية على موازنة بعض الدول، وعدم تعرض النظام الرأسمالي لأزمات تذكر، خلال العقود الثلاثة بعد الحرب العالمية الثانية، إضافة أن المكون الأيديولوجي في الحرب الباردة، كانت كلها عوامل مكنت تياراً يؤمن بالعودة إلى آليات السوق الحر، وانسحاب الدولة كلاعب اقتصادي وضابط لحركة الاقتصاد. انتصار هذا التيار بصعود تاتشر وريغان إلى الحكم، وتسنم مفكري هذا إلى التيار قيادة مؤسسات مالية دولية، أدى إلى انسحاب الدولة من الاقتصاد. ومثّل انهيار الاتحاد السوفييتي وانتصار المعسكر الغربي في ظل قيادة هذا التيار، إعلاناً بصوابية نظرياتهم، وإشاعة معتقدات بأن أي حديث عن دور للدولة في الاقتصاد، هو بمثابة الخروج عن نص مقدس. |
|
|||||||||||||