العدد 50 - دولي
 

داليا حداد

المواجهة بين إيران والولايات المتحدة، مرشحة للوصول إلى مستويات أكثر سخونة في وقت قريب، وذلك على خلفية الموقف من الاتفاقية الأمنية، فقد اتهم السفير الأميركي ببغداد رايان كروكر إيران بمحاولة التدخل في الاتفاقية المزمعة بين العراق والولايات المتحدة، داعيا في الوقت ذاته إلى مزيد من الصبر في العراق. وقال في تصريح نقلته وكالات الأنباء في 26 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، إن من الضروري أن ينظر الأميركيون الى العراق «بحس الصبر الاستراتيجي لأن المخاطر في المنطقة على درجة عالية». أضاف كروكر «إنه بات واضحاً أن إيران تريد إفشال المفاوضات الحالية، فالبيانات الكثيرة الصادرة عن طهران، من جانب سياسيين وشخصيات دينية، تنتقد كلها الاتفاقية، وهم صريحون جداً في تدخلهم». فيما ذهب الجنرال راي اوديرنو، قائد القوات الأميركية في العراق إلى أبعد من هذا، ففي حديث أدلى به إلى صحيفة «واشنطن بوست» أواسط تشرين الأول/أكتوبر الفائت، اتهم طهران بمحاولة رشوة نواب عراقيين لمعارضة الاتفاق، وقال: «نحن نعلم بوجود علاقات بين الإيرانيين مع الناس هنا منذ سنوات طويلة، تعود إلى الأيام التي كان يتولى فيها صدام الرئاسة، وأعتقد أن الإيرانيين يحركون هذه العلاقات للتأثير على نتيجة التصويت المحتمل في مجلس النواب على الاتفاقية الأمنية»، غير أن الجنرال قال بعدئذ إنه ليس هناك دليل على قبول نواب أي رشاوى.

مسؤول كبير في الحكومة العراقية «غير شيعي» يؤيد الاتفاقية قال: «إن الحكومة الإيرانية سخّرت وحركت كل أوراقها في العراق لمنع الاتفاقية، وتضغط بقوة على الشيعة لمنعها، وهم أمام اختيار صعب، هل يتحركون بما تمليه عليهم مصالح العراق أم بمراعاة الأولويات الإيرانية في صراعها مع الولايات المتحدة... هذا اختبار صعب».

من المعلوم أن الإيرانيين سبقوا بعض الأطراف العراقية في رفضهم للاتفاقية، من واقع أن النقاش حولها،كان يدور في الأروقة الإيرانية أكثر منه داخل العراق صاحب الشأن، ذلك لأن إيران تبدو معنية أكثر من الرسميين العراقيين، بمصالحها وأمنها القومي. وقد بدت بالفعل أكثر اهتماما بالاتفاقية من بعض العراقيين، خصوصاً حين يتعلق الأمر بمكاسب حزبية أو طائفية يحرص عليها العديد من سياسيي العراق الجديد. وكان المرجع الديني الإيراني كاظم الحائري، المعروف بقربه من علي خامنئي، أول من تحرك ضد الاتفاقية، وأصدر من مقر إقامته في مدينة قم فتوى حرم فيها التوقيع على الاتفاقية، فسارع مقتدى الصدر، رغم ما يقال عن فتور في علاقته مع الحائري وطهران، إلى تبني الفتوى، والدعوة للتظاهر ضد الاتفاقية، في وقت سبق كثيرا موقف المرجعية الدينية العليا في مدينة النجف. وفي 9 أيلول/ سبتمبر الماضي أعلن رئيس البرلمان  الإيراني علي لاريجاني، رفض بلاده الاتفاقية، معتبراً «أن الولايات المتحدة تحاول من خلالها تثبيت تواجدها البعيد المدى في العراق والمنطقة».

بل إن بعض المسؤولين في إيران بدوا غير مبالين بالالتزام ببروتوكولات التعامل مع العراق، فقد وصف نائب رئيس هيئة الأركان للقوات الإيرانية مسعود جزائري، في تصريح لوكالة «الأسوشيتد برس»، الاتفاقية الأمنية التي لم توقع بعد بأنها «وصمة عار» في تاريخ العراق.

واعتبرت أوساط برلمانية إيرانية نافذة الاتفاقية تهديدا للأمن الإيراني، فضلاً عن الأمن الإقليمي، ونفت اتهامات أميركا لطهران بتقديم رشى لنظرائهم العراقيين مقابل رفض الاتفاقية. فيما دعت دوائر إعلامية إيرانية الحكومة العراقية إلى احترام ما وصفته بـ«موقف المرجعية الدينية الرافض للاتفاقية».

في واقع الأمر أن موقف المرجع الشيعي الأعلى في العراق، آية الله علي السيستاني، من الاتفاقية قد تغير مؤخراً، فبعد أن انتقد قبل بضعة أسابيع عزم الحكومة العراقية توقيعها، مؤكداً «أنه لن يسمح بتوقيع مثل هذه الاتفاقية مع المحتل الأميركي ما دام حياً»، شدّد الأسبوع الماضي على ضرورة أن تتسم  بالشفافية، وأن تحافظ على مصالح العراق. ونقل رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي عبد العزيز الحكيم، عن السيستاني تأكيده على ضرورة أن تتسم الاتفاقية بأربعة مضامين رئيسية هي: الشفافية، والحفاظ على السيادة الوطنية، والإجماع الوطني، وأن يتم عرضها على البرلمان العراقي للتصديق عليها".

وحين التقى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، كلاً من مرشد الثورة علي خامنئي، والرئيس أحمدي نجاد، خلال زيارته الأخيرة إلى طهران في الثاني عشر من أيلول/سبتمبر الماضي، اختصر عليه خامنئي الطريق نحو الموقف المطلوب، وأعلمه أن الاتفاقية «مرفوضة بالجملة والتفصيل، ليس فقط لمساسها بالسيادة العراقية»، حسب قوله، وإنما كذلك «لمساسها بالأمن القومي الإيراني».

وبينما أكدت حكومة المالكي أن القبول أو عدم القبول ببنود الاتفاقية هو شأن عراقي، وأن البرلمان هو المسؤول عن المصادقة أو عدمها، فإن العديد من كبار المسؤولين الإيرانيين مثل: الرئيس أحمدي نجاد، ورئيس مجلس رقابة الدستور الشيخ جنتي، ورئيس مجلس الشورى علي لاريجاني، وأمين مجلس الأمن القومي سعيد جليلي صرحوا علانيةً بأنه «ليس من حق الحكومة والبرلمان العراقي القبول بالاتفاقية»، وذهبوا إلى أنها تضر بالعراق ومصالحه، بل أن بعضهم وصف المشروع بالانتداب الجديد، وأن الحكومة العراقية ليس من حقها الموافقة عليه قبل استشارة إيران، على حد قول الشيخ أحمد خاتمي، خطيب صلاة الجمعة في طهران.

من الواضح أن قرار الحكومة العراقية التي يقودها الائتلاف الشيعي تغيير اسم الاتفاقية الأمنية إلى «اتفاقية سحب القوات الأميركية»، حسبما أكد رئيس الوزراء نوري المالكي في تصريحات نشرت الخميس 30 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، هو محاولة لامتصاص الرفض الإيراني للاتفاقية، أو ايجاد نوع من الموازنة بينه وبين الإصرار الأميركي على توقيعها.

على أن استراتيجية طهران، تتجاوز، كما يبدو، إسقاط هذه الاتفاقية إلى تقويض المشروع الأميركي في المنطقة، فالوجود العسكري الأميركي في العراق لن يضيف كثيراً إلى القدرات الهجومية للولايات المتحدة في حال قيامها باستهداف بعض المواقع الحيوية الإيرانية، وهو من هذا المنطلق لا يشكل خطورة على الأمن الإيراني. إلاّ أن هذا الوجود، يرتبط بمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي بشرت به الإدارة الأميركية في فترة رئاسة بوش الأولى، وهو جزء من استراتيجية الولايات المتحدة للحقبة ما بعد الحرب الباردة، وليس مناورة تكتيكية يمكن أن تتخلى عنها الإدارة الأميركية المقبلة في حالة فوز المرشح الديمقراطي أوباما. هذا المشروع يتطلب أول ما يتطلب توفير مستلزمات قيام نظام ليبرالي في العراق صديق للغرب وللولايات المتحدة. وهو أكثر ما تخشاه إيران، فذلك يهدد مشروعها الأيديولوجي الذي بدأت بتنفيذه منذ اليوم الأول للثورة الإيرانية العام 1979، ووجدت في إقدام الولايات المتحدة على احتلال العراق فرصةً ذهبيةً لإحيائه بعد أن تحجم كثيراً بفعل دخولها الحرب مع العراق العام 1980. هكذا فإن الوجود الأميركي، الذي ستنظمه الاتفاقية، سيحد بكل تأكيد، من قدرات إيران على توسيع مساحات نفوذها، وتطوير المكاسب التي حصلت عليها في العراق منذ سقوط النظام السابق، وتعزيز دور حلفائها الأيديولوجيين الآخذ بالتقلص لصالح القوى الليبرالية والعلمانية، بشكل واضح، حتى في أكثر المدن المحافظة انغلاقاً.

الإدارة الأميركية، التي تلقت التعديلات العراقية الأخيرة على الاتفاقية، ولم ترد عليها رسمياً بعد، رغم وجود إشارات إيجابية على قبول بعض التغييرات، بعثت حسب مصادر موثوق بها، برسالة إلى الحكومة العراقية تحذرها من مغبة عدم توقيع الاتفاقية. تقول مصادر متطابقة إن الرسالة أوضحت في باب التهديدات الأمنية، أن عدم التوقيع على الاتفاقية يعني انكفاء القوات الأميركية عن المساعدة «في دحر أعداء العراق، مما يعني وقف عمليات مكافحة الإرهاب والقاعدة والجماعات الخاصة وتهديدات أخرى، فضلاً عن عدم المساعدة في عمليات مكافحة جماعات خارجة على القانون، وعناصر النظام السابق، وعمليات ضد الشبكات اللوجستية والمالية والمعلوماتية للإرهابيين». هددت الرسالة، أيضاً، بوقف المساعدة الأميركية للقوات العراقية في حماية البلاد عبر رفع الغطاء الجوي، وتجميد حماية البحرية الأميركية للمياه العراقية. وبما يتعلق بالتهديدات الاقتصادية، لوحت الرسالة بجملة اجراءات على رأسها وقف الحماية الأمنية لفرق إعادة الإعمار، وإنهاء مشاريع إعمار بقيمة 9,4 مليار دولار. كما أكدت أن 200 ألف عراقي سيخسرون وظائفهم.

هناك داخل الحكومة العراقية ولدى أوساط سياسية سنية وسواها، قناعة راهنة بأن العراق سيكون الخاسر في حال عدم توقيع الاتفاقية، فإذا ما تم انتخاب أوباما فسيقع الرئيس الجديد تحت ضغط شديد من مروجي الهزيمة في العراق داخل حزبه، واعتبار العراق بمثابة كارثة، ومستنقع، ومصيبة وما شابه تسبب بها بوش والجمهوريون. وفي حالة فوز ماكين، فمن المحتمل أن يرغب في اتباع نهج مميز عن سلفه بوش، من خلال فرض إجراءات تظهره على أنه رئيس حازم وصارم يضع مصالح الولايات قبل او فوق مصالح العراقيين.

عليه فقد تفضي حالة الشك وعدم اليقين هذه إلى تعميق انقسام النخبة السياسية العراقية، فيحاول كثيرون ـ من المحتمل أن تكون الأغلبية الشيعية من بينهم ـ الظفر بالحماية الإيرانية. ومن شأن هذه الخطوة وضع نهاية العراق كدولة مستقلة، بل من الممكن أن تؤدي إلى التمزق، في وقت تسعى طهران فعلياً لبناء دولة منفصلة في وسط البلاد والمحافظات الجنوبية.

أما الخيار الثالث. فيبدو أشبه بمشهد استمرار الأوركسترا الموسيقية في العزف، بينما تغرق السفينة تيتانيك. بمقدور الساسة العراقيين الإدلاء بالخطابات المناهضة للأميركيين، واستخدام جل مواهبهم في الخطب الرنانة البلاغية. حينها سيرحل الأميركيون، وهم متعبون وضجرون من المشروع الذي لم يعد يحظى بتأييد شعبي في الولايات المتحدة، فيما العراق غير مؤهل لإدارة شؤونه. وعلى حساب الخيار الأصح، وهو انتزاع أكبر قدر من مقتضيات السيادة والاستقلال، ودفع القوات الأميركية لانسحاب تدريجي منظم يملأ العراقيون الفراغ من ورائه أولاً بأول وبصورة منتظمة.

من يقرر مستقبل العراق: بغداد أم طهران وواشنطن؟
 
06-Nov-2008
 
العدد 50