العدد 50 - ثقافي
 

محمود الزواوي

أحدث المخرج مايكل مور، ثورة في مفهوم الفيلم الوثائقي أو التسجيلي خلال السنوات العشرين الماضية. فقد حوّل الأفلام الوثائقية إلى أفلام جماهيرية تُعرض في دور السينما، شأنها في ذلك شأن الأفلام الروائية، وأصبحت تحصد عشرات الملايين من الدولارات على شباك التذاكر، بل مئات الملايين من الدولارات في إحدى الحالات.

كان عرض الأفلام الوثائقية قبل ظهور مور يقتصر على المهرجانات السينمائية، حيث كانت تتنافس على الجوائز، والعروض الخاصة لجمهور محدد في دور السينما أو في النوادي والمنتديات. إلا أن هذا المخرج غيّر كل شيء منذ صدور أول فيلم من إخراجه، وهو الفيلم الوثائقي "روجر وأنا" (1989) الذي أتبعه بعدد من الأفلام الوثائقية السينمائية والتلفزيونية، أهمها الأفلام الثلاثة التي قدّمها خلال السنوات الست الأخيرة، وهي: "بولنج لمدرسة كولومباين" (2002) و"11/9 فهرنهايت" (2004) و"سيكو" (2007).

تتميز هذه الأفلام بمعالجتها لموضوعات جادة تمس حياة الناس في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، الأمر الذي أسهم في تحويل الأفلام الوثائقية من أفلام تشاهدها النخبة في مواقع خاصة إلى أفلام جماهيرية يشاهدها عشرات الملايين من الناس في دور السينما. وتشترك هذه الأفلام بالطابع الشخصي الحميم الذي يوفره مور بوصفه شخصية رئيسة في هذه الأفلام كعنصر أساسي في تقديم أحداث هذه الأفلام بأسلوبه الساخر.

ظهر مايكل مور، على الساحة فجأة في سن الخامسة والثلاثين حين قدّم فيلم "روجر وأنا" الذي أثار قدراً غير مسبوق من الاهتمام والجدل في الولايات المتحدة، وكان أول فيلم وثائقي في تاريخ السينما يصعد إلى قائمة الأفلام العشرة الأولى التي تحقق أعلى الإيرادات في دور السينما الأميركية، منافساً أكثر الأفلام الروائية شعبية. وبلغت إيرادات هذا الفيلم على شباك التذاكر ثمانية ملايين دولار، وهو إنجاز غير مسبوق بالنسبة للأفلام الوثائقية.

وكان مور باع منزله ومحتوياته بالمزاد وحصل على تبرعات لجمع المبلغ اللازم لتمويل الفيلم (160 ألف دولار). إلا أنه باع الفيلم لأستوديو الإخوة وارنر بثلاثة ملايين دولار، ثم تبرع بمليون دولار من دخل الفيلم لمركز وسائل الإعلام البديلة لتمويل الأفلام الوثائقية المماثلة لفيلم "روجر وأنا".

تمحورت أحداث فيلم "روجر وأنا" حول محاولات مايكل مور المستمرة للاجتماع بروجر سميث، رئيس شركة جنرال موتورز، أكبر شركة لصناعة السيارات في العالم، لكي يظهر ما حدث لمدينة فلينت بولاية ميتشغان ولسكانها واقتصادها نتيجة قيام الشركة بإغلاق عدد من مصانعها في المدينة والاستغناء عن آلاف من عمال تلك المصانع الذين يعيشون في المدينة التي يعتمد اقتصادها كليا على تلك المصانع. وحاول مور أن يُبرز قسوة مدراء الشركات العملاقة وأثر قراراتهم في حياة الناس، وعزّز مصداقية الفيلم بعشرات المقابلات مع سكان المدينة الذين كانوا ضحية قرارات الشركة المتعلقة بإغلاق مصانعها في مدينة فلينت، مسقط رأس مور.

واصل مور تقديم سلسلة من الأفلام السينمائية والتلفزيونية الوثائقية القصيرة على مدى سنوات، ثم بلغ ذروة نجاحه في فيلمي: "بولنج لمدرسة كولومباين" (2002) و"11/9 فهرنهايت".

اكتسب فيلم "بولنج لمدرسة كولومباين" أهمية خاصة، بسبب موضوعه الجاد الذي يعالج مشكلة انتشار الأسلحة في الولايات المتحدة، وارتباط ذلك بانتشار الجريمة في المجتمع الأميركي. واستخدم مور حادث عنف مأساويا حقيقيا كنقطة انطلاق لموضوع الفيلم، وهو الحادث الذي قام فيه طالبان مراهقان ساخطان بإطلاق النار على طلاب صفهما في مدرسة كولومباين بولاية كولورادو في العام 1999، ما أسفر عن مقتل 12 طالباً وطالبة ومدرّس الصف قبل أن يقدم الطالبان على الانتحار. يستمد الفيلم عنوانه من حقيقة أن الطالبين المراهقين قاما بممارسة لعبة البولنغ في صباح اليوم الذي ارتكبا فيه جريمتهما.

وقارن مور بين انتشار الأسلحة وارتباطها بالجريمة في الولايات المتحدة مع عدد من الدول الأخرى، وخلص إلى أن أحد أسباب تفشي ظاهرة العنف في الولايات المتحدة هو الفردية الصارمة للفرد الأميركي، وربط ذلك بالتعصب العنصري.

فاز فيلم "بولنج لمدرسة كولومباين" بعدد كبير من الجوائز، أهمها جائزة الأوسكار. وشن مور عند تسلمه الجائزة هجوماً لاذعاً على الرئيس بوش بسبب الحرب في العراق. كما عُرض الفيلم في مهرجان كان السينمائي. وبلغت الإيرادات العالمية الإجمالية للفيلم 58 مليون دولار، وهو أعلى دخل يحققه فيلم وثائقي حتى صدور "بولنج لمدرسة كولومباين".

بعد عامين قدّم مور فيلم "11/9 فهرنهايت" الذي حلق فيه إلى آفاق جديدة في النجاح، رغم معارضة هذا الفيلم من جانب المسؤولين في البيت الأبيض وبعض زعماء الحزب الجمهوري الأميركي. يقول مور عن فيلمه: "إنه وثائقي يتتبع الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة هدفا للكراهية والإرهاب".

يوجه الفيلم نقدا لاذعا للرئيس بوش ولسياساته المتعلقة بالحرب على الإرهاب وسياسته في العراق، ويتهم حكومته باستغلال اعتداءات الحادث عشر من أيلول/سبتمبر لخدمة أجنداتها السياسية. ويشتمل الفيلم على مشاهد مأساوية لضحايا الحرب في العراق لم تُعرض من قبل، تمكن مور من الحصول عليها عن طريق فرق من المصورين الذين أرسلهم نيابة عنه ورافقوا القوات الأميركية أثناء دخولها العراق وتحركها نحو بغداد، دون علم السلطات الأميركية بعلاقة هذه الفرق به. كما يشتمل الفيلم على مشاهد لإساءة معاملة السجناء العراقيين على أيدي الجنود الأميركيين في سجن أبو غريب سبقت الكشف عنها في وسائل الإعلام الأميركية.

فاز فيلم "11/9 فهرنهايت" بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، وبلغت إيراداته العالمية الإجمالية 222 مليون دولار، مسجلة رقماً قياسياً جديداً بالنسبة للأفلام الوثائقية، علما أن تكاليف إنتاج الفيلم اقتصرت على ستة ملايين دولار.

بعد ذلك قدّم مور فيلماً آخر مثيراً للجدل هو "سيكو" الذي يكشف فيه خفايا وفساد وفشل الرعاية الصحية الأميركية عن طريق سلسلة من المقابلات مع مواطنين أميركيين حُرموا من العلاج من شركات التأمين الصحي التي تضحّي بتقديم الخدمات الأساسية في سبيل زيادة أرباحها.

تابع مور ذلك بإلقاء نظرة على أنظمة الرعاية الصحية في عدد من الدول الأخرى، وفنّد الادعاءات والمخاوف من أنها تعاني من تدني الرعاية الصحية وتراجع أجور الأطباء وتضخم الجهاز البيروقراطي، وهي حجج استُخدمت لإقناع الأميركيين بعدم جدوى إقامة نظام مماثل للرعاية الصحية، بحجة فشل هذه الأنظمة في الدول الأخرى.

رُشح فيلم "سيكو" لجائزة الأوسكار، وشملت الجوائز التي فاز بها جائزتَي رابطتَي نقاد السينما في كل من شيكاغو ولاس فيجاس، وبلغت الإيرادات العالمية الإجمالية للفيلم 36 مليون دولار، علما أن تكاليف إنتاجه بلغت سبعة ملايين دولار.

كان مور جابَهَ قبل سنوات جورج بوش حين كان حاكما لولاية تكساس، فما كان من بوش إلا أن قال لمور: "ينبغي عليك أن تتعلم التأدب. اذهب وابحث عن عمل حقيقي". ويبدو أن مور أخذ بنصيحة جورج بوش، فقد وجد "عملاً حقيقياً" بالفعل، وهو تنغيص حياة جورج بوش.

وقد وجّه مايكل مور رسالة مفتوحة إلى الرئيس بوش في آذار/مارس 2003 بعد الحرب على العراق خاطبه فيها كحاكم بدلا من رئيس، وقال فيها: "إن لحظة الحقيقة قد حانت، بعد أن تحملت 440 يوماً من كذبك وتواطئك وتآمرك، ولستُ متأكداً مما إذا كان باستطاعتي تحمل المزيد".

مور وجّه رسائل عدّة خلال الأشهر الأخيرة، منها رسالة إلى الشعب الأميركي في نيسان/أبريل الفائت بعنوان: "سأدلي بصوتي لأوباما". ومما قاله في هذه الرسالة إنه لم يعد يحتمل دقيقة أخرى من إدارة بوش والأضرار الدائمة والمتعذر إلغاؤها التي ألحقتها بالشعب الأميركي وبالعالم. وأضاف أن كل ما يهمه يوم الانتخابات هو أن يصوت لكلمة "ديمقراطي"، ما دام أن الاسم على ورقة الاقتراع ليس بوش أو كلمة "جمهوري".

مايكل مور: المخرج الذي حوّل الفيلم الوثائقي إلى جماهيري
 
06-Nov-2008
 
العدد 50