العدد 49 - أردني | ||||||||||||||
نهاد الجريري قد لا يلتفت العابرون بشارع المطار إلى بساتين الزيتون التي امتدت على جانبي الطريق في منطقة القسطل تحديدا فيما يُعرف بمزارع عاكف وعناد الفايز. لكن أبو معاذ المولود في بلدة أم الكُندُم القريبة (البشارات سابقاً)، يدرك، كلما مرّ بالمكان، أن أمرا قد تغير هناك على مدى الثلاثين أو أربعين عاما الماضية. فلم تكن القسطل وقتئذ قد تبنت الشجرة المباركة. حال القسطل حال كثير من المناطق الأردنية التي عرفت الزيتون في وقت حديث نسبيا. في العام 1947، لم تتجاوز مساحة الأراضي المزروعة زيتونا في المملكة 52 ألف دونم، بحسب إحصائية وزارة الزراعة التي وثقها كتاب علي نصوح الطاهر "شجرة الزيتون" الصادر في العام نفسه. جاء في الإحصائية أن عمّان العاصمة كانت الأقل حظا من حيث مساحات الزيتون، فلم تتعد حصتها 160 دونما. وعلّق الطاهر على الإحجام عن زراعة الزيتون في "القضاء" بأن هذا النوع من الزراعة ليست له أهمية تذكر، ويقول: "من النادر أن يمر المرء على كروم زيتون تزيد في مساحتها عن بضعة دونمات في المنطقة كلها"، والتي شملت "قرى" الجبيهة، الزيود، صويلح، العساف، عمان، الفقها، القويسمة، ماركا، المناصير، ناعور ووادي السير. ولم يرد في خارطة الزيتون في الأردن في ذلك الوقت، أي ذكر لمدينة مادبا أو لوائها مثلا. أما عجلون فحازت نصيب الأسد من المساحات المزروعة زيتونا، إذ بلغت نحو 21 ألف دونم. اليوم، وبحسب التقرير السنوي لوزارة الزراعة للعام 2007، وصلت مساحة الأراضي المزروعة بالزيتون حوالي 1،2 مليون دونم، أي بزيادة مقدارها 23 ضعفا عمّا كانت عليه في العام 1947. فمثلاً، زادت مساحات الزيتون في عمّان إلى 133 ألف دونم؛ فيما ظهرت مادبا على خارطة الزيتون بمساحة تبلغ 59 ألف دونم. ما بين أرقام العامين 1947 و2007، ثمة محطات اتسعت فيها رقعة الأراضي المزروعة زيتونا في الأردن بشكل لافت ارتبط بعوامل سياسية واجتماعية واقتصادية وبيئية. تجلت معالم هذا التزايد المطرد في عقد السبعينيات؛ إذ إن الزيادة في المساحات الزيتونية لم تكن ذات بال في الفترة من نهاية الأربعينيات وحتى الستينيات. مع نهاية الستينيات لم تزد المساحات الزيتونية إلا بمقدار بضعة آلاف من الدونمات وصلت 69 ألف دونم، من 52 ألفا فقط. أما في نهاية السبعينيات، فقد تضاعفت المساحة لتصل حوالي 154 ألف دونم، وفي الثمانينيات تضاعفت ثانية لتصل 302 ألف دونم. القفزة النوعية حدثت في التسعينيات، إذ زادت المساحات الزيتونية 3 أضعاف، فبلغت في 2001 حوالي 908 آلاف دونم. جمال البطش، رئيس وحدة الزيتون في وزارة الزراعة، يرى أن التحول المفاجىء واللافت نحو زراعة الزيتون في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، حدث لأن الأردن، سعى مع بداية السبعينيات، إلى سد حاجته من الزيت والزيتون تعويضا عما فقده من زيتون الضفة الغربية العام 1967، والبالغة ستة ملايين شجرة. يُضاف إلى ذلك ارتفاع أسعار الزيت واضطرار الأردن لاستيراده حتى العام 1999. الأردن حقق في السنوات الخمس الأخيرة (2003-2007) اكتفاءً ذاتيا من الزيت والزيتون؛ فلم يستورد أية كميات من الزيت خلال هذه الفترة، بينما استورد 163 طنا فقط من زيتون المائدة للفترة نفسها (بحسب أرقام المركز الوطني للبحث والإرشاد الزراعي). وفي بعد سياسي واجتماعي آخر، يعتبر فهمي شتات، اختصاصي البتسنة الشجرية والتخزين في كلية الزراعة بالجامعة الأردنية، أن عودة المغتربين إبان حرب الخليج الثانية (1991/1992) ساهمت في التحول نحو زراعة الزيتون. ويشرح أن هؤلاء المغتربين وجدوا ربحا مريحا في الاستثمار في مزارع الزيتون، وساعدهم في ذلك أن هذه الشجرة تحتاج إلى الحد الأدنى من العناية من حرث وتقليم وتسميد. لكن فيصل عواودة، مدير المركز الوطني للبحث والإرشاد الزراعي، يقول إن هذا اعتقاد خاطىء، إذ إن إيلاء الزيتونة العناية الوافية يعود على المزارع بنفع كثير وقيمة ربحية مضاعفة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأسواق العالمية باتت مفتوحة على مصراعيها لاستقبال أي منتج عالي الجودة من الزيت والزيتون، نظرا للوعي العالمي بأهمية هذا المنتج من النواحي الطبية والغذائية والتجميلية، وهو ما يجعل من التصدير إلى الخارج، إلى جانب التسويق المحلي، عملية مربحة. وبعيدا عن مبدأ الربح والخسارة في الزيتون، يرى شتات أن تشكل ظاهرة "حديقة نهاية الأسبوع"، أو "مزرعة العائلة" التي برزت في الثمانينيات والتسعينيات، ساهمت في زيادة المساحات الزيتونية. رافق هذه الظاهرة حركة بيع لقطع أراض بمساحة لا تتجاوز 10 دونمات أقبل عليها المغتربون العائدون وأفراد الطبقة الوسطى من المجتمع. شجرة الزيتون كان لها نصيب الأسد من الأشجار المثمرة التي استغلت في تخضير هذه المساحات، لقلة ما تحتاجه من صيانة ولتحملها مناخ هذا البلد. وبكلمات المزارع أبو محمد، فإن "شجرة الزيتون مثل اسم محمد والأنبياء والصالحين، لا يخلو منها بيت". شتات، يذهب إلى ما هو أبعد من العوامل الاجتماعية والسياسية، ويعتبر أن حدثا بيئيا زراعيا ساهم في انتشار الزيتون في هذه الفترة؛ فقد تعرضت التفاحيات واللوزيات في المناطق الوسطى والشمالية من المملكة إلى آفة "حفّار جذر اللوزيات Cap Nodis"، فقضى على معظم البساتين هناك. وتزامن ذلك مع شح في الأمطار وارتفاع في أسعار المياه. وعلى اعتبار قلة الصيانة والمياه التي تحتاجها الزيتونة مقارنة بغيرها من التفاحيات واللوزيات، وجد المزارعون الصغار وأصحاب المزارع العائلية ضالتهم في التحول في اتجاهها. ومن الطريف أن سببا مماثلا كان وراء التحول نحو زراعة الزيتون في السلط، بحسب ما يؤرخ له الطاهر في كتاب "شجرة الزيتون". يقول الطاهر: "لم يكن لزراعة الزيتون أهمية تذكر في السلط، لاعتماد جل مزارعي البلدة والقضاء على شجرة الكرمة، ولكن إصابة الأخيرة بآفة تسببها حشرة الفيلوكسرا واختفاء كثير من كروم العنب فتح عيون الأهلين على الإقبال على زراعة أشجار مثمرة أخرى وبخاصة شجرة الزيتون". يضاف إلى ذلك كله أن وزارة الزراعة عكفت على مشاريع وطنية شجعت على زراعة الزيتون. ويرجح أن أول هذه المشاريع كان مشروع تطوير الأراضي المرتفعة الذي أصبح لاحقا مشروع الأراضي المشتركة. بدأ العمل في هذا المشروع منتصف الستينيات. ويذكر أبو طارق من سكان السلط، أنه في تلك السنوات، كانت "الدولة" توزع على أهالي المنطقة "مونة" مكونة من سمن وأرز، في مقابل أن يستصلحوا الأرض ويهيؤوها ويبنوا "السناسل" أو الجدران الاستنادية من الصخر والحجارة، حتى يزرعوها بأشتال الزيتون. ثم تتابعت هذه المشاريع مثل مشاريع المصادر الزراعية في الكرك والطفيلة، ومشروع تطوير حوض نهر اليرموك ومشروع حوض نهر الزرقاء. ويشرح البطش، أن الوزارة تقوم في كل مشروع بتقديم خدمات مجانية؛ من صيانة التربة، إلى تحديد الأرض وتشييكها، إلى وضع خطة علمية للاستفادة من قطعة الأرض على النحو الأمثل، وصولا إلى تقديم الغراس والأشتال وهي في معظمها من الزيتون. وتوزع الوزارة أشتال زيتون بأسعار مدعومة تبلغ بالمعدل 150 ألف غرسة. تطوّرُ قطاع الزيتون في المملكة في الخمسين عاما الأخيرة يمثل قصة نجاح حقيقية. فقد تحوّل الزيتون من محصول هامشي إلى المنتج الزراعي الأول في المملكة بحصة من الدخل القومي بلغت 70 مليون دينار سنويا. وبهذا، تحوّل الأردن من زراعة الزيتون في بضعة آلاف من الدونمات إلى رئاسة المجلس الدولي للزيتون: أرفع مؤسسة في العالم تُعنى بالزيتون ومنتجاته. ** الزيتون ومهرجاناته منذ بداية الألفية الجديدة بدأت وحدة الزيتون في وزارة الزراعة إقامة مهرجان سنوي للزيتون ومنتجاته، وسيعقد مهرجان الزيتون التاسع في شهر كانون الأول/ ديسمبر المقبل، وتتم دعوة السفارات العربية والأجنبية للمشاركة في هذا المهرجان، الذي يمثل فرصة لتقديم الزيتون والزيت الأردني إلى العالم، والذي يفتح إلى جانب هذا الباب أمام الشركات والمعاصر لتقديم إنتاجها والبيع المباشر إلى الجمهور، حيث تعرض أصناف متعددة لبيعها. ومن ضمن الفعاليات يتم تكريم «المرأة الريفية» لما لها من دور كبير في عملية قطاف الزيتون وجمعه، وينجح هذا المعرض في استقطاب أعداد كبيرة من المشاركين في كل عام. ويذكر جمال البطش، مدير وحدة الزيتون في وزارة الزراعة، أن هذا المهرجان ينظم كل سنة بالتعاون مع وزارة السياحة، لاستغلال هذا المنتج لترويج الأردن سياحياً، ولإعطاء صورة متميزة عن الزراعة الأردنية، وهذا المهرجان يساعد على تطوير قطاع الزيتون في الأردن، والعمل على تحسينه بشكل دوري. ويقام إلى جانب هذا المهرجان، معرض، بالتعاون مع نقابة المهندسين الزراعيين، في منتصف شهر تموز، لفتح أسواق جديدة للمغتربين الذي يزورون الأردن في هذا الوقت، ويفتح الباب أمام المزارعين لتصريف إنتاجهم المتبقي من الموسم الفائت قبل الدخول في الموسم الجديد. وقد أخذت دول مجاورة مثل السعودية هذه الفكرة، وبدأت تنظيم مهرجانات للزيتون في مدن مثل الجوف وسكاكا، وتحقق مثل هذا المعارض مبيعات كبيرة، للعاملين في هذا القطاع. |
|
|||||||||||||