العدد 49 - أردني | ||||||||||||||
الصابون النابلسي: صناعة أنعشت الزراعة في البلقاء محمود منير لم ترتبط مدينة نابلس بأي صناعة مثلما ارتبطت بصناعة الصابون. في الثلاثينيات من القرن الماضي، اشترت شركة مصرية حق إنتاج الصابون النابلسي من "صبانة" شاهين، وحمل الصابون الذي أنتجته اسم "نابلسي شاهين". مع الدمار الذي ألحقه الاحتلال الإسرائيلي بمدينة نابلس، التي ظلت دوما العاصمة الاقتصادية لفلسطين، كان قطاع صناعة الصابون الأكثر تضررا، فلم يبق من مصابن المدينة سوى صبانتين. نائل القبج، مدير صبّانة طوقان في مدينة نابلس، أوجز في حديث خاص لـ"ے"، المعاناة التي ألمّت بقطاع صناعة الصابون النابلسي، وعقد مقارنة بين الوضع الحالي لصناعة الصابون وبين ما كانت عليه في الستينيات من القرن الفائت، حيث شهدت تلك المرحلة ذروة إنتاج الصابون النابلسي، ووصل عدد «المصابن» فيها إلى 70 صبّانة. ومن الأمور ذات الدلالة أن عدد المصابن تراجع بعد الاحتلال الإسرائيلي للمدينة في العام 1967، ليصبح عددها زهاء 30 صبّانة في السبعينيات. واستمر مسلسل إغلاق المصابن، حتى تقلص عددها إلى 5 مصابن بعد الانتفاضة الثانية، وهو ما أثر على كمية الإنتاج، فتراجع إنتاج صبانة طوقان من 650 ألف طن سنوياً، إلى 300 طن حالياً، وجرى الاستغناء عن العمال الذين وصل عددهم قبل الانتفاضة إلى 35 عاملاً ليصبح اليوم 20 عاملاً، فقد تسرب هؤلاء العمال، وأغلبهم من الفنيين المختصين، للعمل في مهن أخرى، أو اللجوء للعمل داخل الأراضي المحتلة في العام 1948. أما اليوم، فلم يعد في نابلس اليوم سوى مصبنتين هما: «صبانة الجمل» التي تعود ملكيتها لآل الشكعة، و«صبّانة طوقان»، وذلك بعد أن أغلقت «صبانة النعامة» التي تعود ملكيتها لمحمد المصري، أبوابها أخيرا. يذكر التاريخ أن نابلس شهدت أزمة مماثلة حلّت بصناعة الصابون في زمن الاحتلال الصليبي. المقدسي، المؤرخ والرحالة الذي عاش في القرن العاشر الميلادي، يورد في كتابه الشهير «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» أن صناعة الصابون حُظرت على أهل نابلس وأصبحت حكرا ملَكيا، فكان الصليبيون هم المسؤولون عنها، ومُنع أصحاب المصانع من ممارسة هذه الصناعة إلا بعد أن منحهم عقدا من ملك بيت المقدس يسمح لهم فيه بصنع الصابون، ليضمن الملك بذلك مورداً مالياً جيداً وثابتاً من أصحاب المصابن. ويؤرخ المقدسي لانتقال صناعة الصابون، على أيدي الصليبيين، إلى أوروبا، وبخاصة فرنسا، إذ تأسست مصانع للصابون المصنوع من زيت الزيتون في مرسيليا، وكانت هذه المصانع تحضّر الصابون بطريقة مشابهة لطريقة تحضير الصابون النابلسي. من جهة أخرى، تكشف كُتب الرحالة الأوروبيين الذين زاروا الأردن في القرن التاسع عشر، عن التأثير الكبير لصناعة الصابون في يافا ونابلس، على تطور الزراعة في شرق الأردن، ومساهمتها في تكبير الحيازات الزراعية. تعرض كتب الرحّالة كيفية جلب عشبة القلي التي تتواجد في منطقة البلقاء، وبخاصة حول «ياجوز»، إلى نابلس ويافا، حيث يجري إحراقها واستعمال رمادها كمكوّن أساسي في صناعة الصابون. في رواية متصلة قدِم التاجر صالح أبو جابر من نابلس إلى شرق الأردن، وعقد شراكة مع أبو جنيب، أحد شيوخ بني صخر، لجمع القلي ونقله غرباً في قوافل من الحمير كانت تتم حراستها خشية اعتداءات البدو آنذاك. في السياق نفسه، قام أبو جابر بزراعة أراضٍ في اليادودة وأحضر معه فلاحين من نابلس والقدس والسلط ليقوموا بفلاحة الأرض، كما بنى بيتاً له في اليادودة العام 1873، وتطوّرت حيازة أبو جابر للأراضي الزراعية من 60 فداناً إلى أكثر من 20 ألف دونم مع بداية الحرب العالمية الثانية. ويذكر جورج طريف في كتابه «السلط وجوارها خلال الفترة 1864- 1921» هجرة عدد كبير من العائلات النابلسية إلى السلط في تلك الفترة، ومنها: طوقان، والعمد، والبلبيسي، والسختيان، والبسطامي، وشاهين، ودروزة، ومنكو. يستعرض القبج المحطات الرئيسة التي مرّت بها صناعة صابون «مفتاحين»، التي تنتجها صبّانة طوقان منذ تأسيسها قبل أكثر من 120 عاماً على يد حافظ وعبد الفتاح طوقان. ويشير إلى أن آلية التصنيع القديمة كانت تعتمد على جلب عشبة القلي من جبال البلقاء حيث تنبت بكثرة هناك وتنقع في أحواض خاصة بالماء والشيد لاستحلاب خلاصتها التي تحوّل الزيت إلى صابون، ثم يوضع الزيت في صهاريج ضخمة وتوقد تحتها النار الموقدة بالجفت حتى تجهز الطبخة فيتم بسطها (فردها) وتحضيرها للتقطيع لترتب على شكل هرم حتى تجف. يضيف القبج أنه كان يتم إرسال الصابون إلى الأردن، بهدف تصديره لدول الخليج ومصر. المبنى الذي يضم المصنع ما زال في موقعه في ميدان الحسين في قلب نابلس، ويقوم على مساحة مقدارها دونم ونصف الدونم. وما زال محافظاً على حاله، بعد أن تحول معْلماً تاريخياً. بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في العام 1967، تم اللجوء إلى الصودا المستخلصة من عشبة القلي، وهي مصنعة كيميائياً، حيث يتم طبخ الزيت بالماء والصودا على النار بتسخينها بوساطة الديزل، وتراقَب لمدة أسبوع حتى تجهز الطبخة، ويجري الانتظار يوما أو يومين حتى تسمح درجة صلابة الصابون بالتقطيع الذي يتم يدوياً. بحسب القبج، فإن المنتجين الرئيسيين اللذين تنتجهما الصبانة هما: الصابون الأبيض، المخصص للاستحمام، والصابون الأخضر المصنّع من العصارة الخامسة من الجفت، ويُستعمل في غسيل الملابس. لكن صناعة الصابون الأخضر توقفت، بسبب دخول مصانع الصابون الحديثة إلى الضفة الغربية، وأصبح هذا الصابون يُصنع من الشحوم. يلفت القبج إلى أن «صبانة طوقان حصلت على شهادة الجودة من الجمعية العلمية الملكية في الأردن، ودائرة المواصفات الفلسطينية، وهي شهادات معتمدة أوروبياً». عن تطوير صناعة الصابون النابلسي بإدخال تحسينات على شكله وتغليفه، أو إضافة الروائح المعطرة، يقول القبج: «هناك توجّه لتصنيع قطع صغيرة في عبوات خاصة، لكن، وفق المراسلات التي تمت بين الصبانة ومصانع صابون في إيطاليا وألمانيا، فقد نصح الخبراء بتقطيع الأحجام الصغيرة يدوياً لعدم وجود ماكينات يمكن أن تقطع الصابون». القبج يشكو من تعرض الصابون النابلسي، وبخاصة ماركة «المفتاحين»، إلى التزوير. ويؤكد أنه تمت مخاطبة الجهات الحكومية في البلدان التي تمت فيها عمليات التزوير. لكن التزوير ما زال مستمراً. يطالب القبج الدول المعنية بالمحافظة على هذه الصناعة العريقة، وذلك بتخفيض الرسوم والقيود المفروضة على تصدير الصابون. **
ألف عام من صناعة الصابون يعود تاريخ صناعة الصابون في نابلس إلى أكثر من ألف عام مضت. ويُستدَلّ على ذلك من كتابات كثيرة دوّنها رحّالة ومؤرخون قدماء، منهم «المقدسي» الذي عاش في القرن العاشر الميلادي. وأول وصف لصناعة الصابون جاء على لسان شمس الدين محمد بن أبي طالب الأنصاري الدمشقي الملقب بـ«شيخ الربوة»، الذي قال إن الصابون كان يصنَّع في المدينة ويحمل إلى سائر البلاد. لا يُعرف على وجه التحديد من هو مَبتكر هذه الصناعة، وهل بدأت في نابلس أم نُقلت إليها من مدينة أخرى؟ لكن الثابت أن هذه الصناعة وَجدت لها في نابلس البيئة والظروف المناسبة التي ساعدت على تمركزها في هذه المدينة أكثر من غيرها. ساعد على ذلك وفرة زيت الزيتون في منطقة نابلس ومحيطها. فالزيت هو المادة الأساسية في صناعة الصابون. وكان لانتشار الحمّامات التركية العامة في المدينة دور في استمرار هذه الصناعة وزيادة الطلب عليها، فقد ارتبط الصابون النابلسي قديما بالحمامات العامة، إذ كان العاملُ ينتهي من عمله مساءً ويشتري قطعة من الصابون ويذهب بها إلى أحد الحمّامات ليغتسل. وقد تشابهت المصابن في هيكلية البناء لدقة العمل وخصوصيته، فكانت المصبنة تنقسم إلى أقسام رئيسية، أولاً: الآبار التي تقع تحت الطبقة الأرضية، وفيها يخزَّن الزيت. ويتراوح عدد الآبار من ثلاث إلى سبع، وتختلف سعة كل منها من خمسة أطنان إلى ثلاثين أو أكثر، والبئر الكبرى كانت تسمى «البحرة»، بينما تسمى الصغرى «الجانبي»، وتُلفظ «الجنيب». أما القسم الثاني فيحتل كل الطبقة الأرضية ذات السقف العالي، ويتم تصميمه بحيث يمتص الحرارة المنبعثة من عملية الطبخ. وفي مؤخرة الطبقة الأرضية وعلى جانبيها كانت تقوم مستودعات المواد الأولية الأخرى: القلو والشيد وخزان ماء. وكان «القميم» يقع تحت مستوى الطبقة الأرضية، ويتم الوصول إليه عبر بضع درجات، وفوق القميم كانت القدر النحاسية التي تزن نحو طن، وفي جوار القميم كانت بئر الزيت (الجنيب) التي كانت تتسع للكمية نفسها من زيت الزيتون التي يستوعبها القدر، وقد صُمم موقع هذه البئر بحيث يوفر الوقت في عملية الكيل ويتم الحفاظ على الطاقة؛ فعندما تنتهي الطبخة الأولى تكون الثانية قد أصبحت دافئة جاهزة للشروع فيها. القسم الثالث من المصبنة كان يسمى «المفرض»، وكان يحتل الطبقة الثانية كلها، وفيه كان الصابون يُنشر ويُقطع ويُجفف. في مراحل الإنتاج الأولى، كان يوضع مزيج القلو والشيد في جرن حجري ثم يدق بـ«مهباج» خشبي حتى يصبح مسحوقاً ناعماً، وفي هذا الوقت يسارع العامل في المصبنة لفرش «الشيد» في حوض قليل العمق، وينقع في الماء حتى يجف، ثم يطحن المادة طحنا ناعما ليخلط بعد الانتهاء من ذلك المسحوقين ويضعهما في صف من أحواض التخمير، وهي في العادة بين ثلاثة وستة مرتفعة عن الأرضية. تأتي بعد ذلك مرحلة صب الماء الساخن من مبذل يقع في أسفل القدر النحاسية؛ لأن الزيت كان يبقى في الأعلى، وعندما يمتص المحتوى الكيماوي للمزيج، يجري تقطيره قطرة قطرة، في مجموعة مماثلة من الأحواض أدنى من نظائرها وأعمق منها. تتكرر هذه العملية حتى يصل المحتوى الكيماوي للماء إلى درجة معينة من القوة، ثم يضاف الماء إلى القدر النحاسية كي يمتص الزيت المواد الكيماوية وتنتهي الدورة. وكانت هذه الدورة تتكرر عشرات المرات (متوسطها 40 مرة)، بينما يحرك سائل الصابون الساخن في القدر باستمرار بوساطة الدكشاب (قطعة خشبية شبيهة بالمجداف). |
|
|||||||||||||