العدد 49 - أردني | ||||||||||||||
محمود منير «يا زيتونة يا ليمونة، غنالك طير الحسونة، غنالك أحلى موال، حتى تعودي يا حنونة»، هذا الموال القديم كان يغنيه الفلاحون الفلسطينيون وهم يقطفون أشجار الزيتون في قراهم، لتظهر فجأة جرافات إسرائيلية تقترب منهم وتبدأ باقتلاع أشجار الزيتون الروماني التي تعود لأكثر من ألفي عام. بهذا المشهد بدأ فيلم «موال فلسطيني» للمخرج الأميركي من أصل فلسطيني، نداء سنقرط، والذي وظّف فيه شجرة الزيتون توظيفا جيدا في فيلمه الذي يعالج فيه قضية جدار الفصل العنصري. لم تكن نداء سنقرط، أول من استخدم شجرة الزيتون رمزا في عمل سينمائي، إذ إنها حظيت باهتمام العديد من السينمائيين الفلسطينيين الذين استحضروا الزيتون في أفلام عدة، كان من أهمها فيلم «زيتونة» للمخرجة ليانة بدر، التي أظهرت تماهي المرأة الفلسطينية مع شجرة الزيتون، لتحيلنا إلى دلالة أخرى تتجسد في مقولة لها بالفيلم: «كلما اقتلعت شجرة زيتون حذف مكان، والمكان هوية». ولم يقتصر استخدام الزيتون رمزا فلسطينيا على الفن السينمائي، فهنالك نماذج عديدة في الأدب والفن استلهمت شجرة الزيتون لترمز فيه إلى صمود الفلسطيني وارتباطه بأرضه ووفائه لها، صورة تكرّست في الرواية والشعر والقصة، من أبرزها ما كتبه الشاعر الراحل محمود درويش في قصيدته «عن الصمود» من ديوانه «أوراق الزيتون»: لو يذكر الزيتون غارسهُ/ لصار الزيت دمعا!/يا حكمة الأجدادِ/ لو من لحمنا نعطيك درعا!/ لكن سهل الريح، لا يعطي عبيد الريح زرعا!/ إنا سنقلع بالرموشِ/ الشوك والأحزان.. قلعا!/ وإلام نحمل عارنا وصليبنا!/ والكون يسعى../ستظل في الزيتون خضرته،/ وحول الأرض درعا!! كما استخدم الفنانون التشكيليون الفلسطينيون الزيتون رمزا فنيا، فتظهر الزيتونة في أعمال الفنان الراحل إسماعيل شموط وعبد الحي مسلم وغيرهما. ولأن الزيتون متوسطي، كان الحضور الأول والأبرز له في إبداعات متوسطية عديدة, لعل من أبرزها ما ورد في ملحمة «الأوديسة» لهوميروس، إذ كان سرير العاشقة بينيلوبي مصنوعا من شجر الزيتون، في دلالة على وفائها المطلق لحبيبها يوليسيز ورفضها للزواج من غيره أثناء انتظارها عودته من رحلته الطويلة. وصنع الإغريق تماثيل آلهتهم من شجرة الزيتون، وكانت شجرة الزيتون أحب الأشياء إلى الإلهة أثينا، ربة الحرب وحامية المدن وربة الحكمة، لذلك اعتبرت مانحة الزيتون للبشر. في الأدب الحديث، لا تختلف كثيراً صورة شجرة الزيتون لدى كتّاب أوروبيين متوسطيين عمّا هي عليه في الأدب الفلسطيني، ففي رواية للفرنسي جان جيونو يرفض البطل اعتبار الزيتونة مجرد مشهد، فهي روح وجسد، بحسب رؤيته، وهو يجد في مذاق الزيتون طعم الأرض، أما رواية «همس الزيتون» للروائي الإيطالي جيوزيبي بونافيري فنرى فيها شجرة الزيتون تحاور الإنسان وتتناغم معه في حياته اليومية كمصدر للنور. وهو يشير إلى أن أشجار الزيتون تبدو مهزومة أمام الريح الساخنة حين يهجر الفلاح الريف، كما تشكل الزيتونة فضاءً وملاذاً لبطل رواية «الريح الكبيرة: للإيطالي فرانشيسكو يامونتي» بفضل هوائها المقدس. ولا تختلف النظرة كثيراً لدى أدباء متوسطيين آخرين، بسبب تراكم نسق ثقافي يدخل في مكوناته الكتاب المقدس والتراث الإغريقي، وهو ما ينسحب على «مسلمي المتوسط»، بالنظر لتشابه النسق الثقافي المستمد من القرآن الكريم والتراث العربي. إلاّ أن الأدب العربي القديم احتفى بجمال الزيتونة التي تشبه الجميلة من النساء، بحسب الشاعر محمد بن دانيال الأندلسي: كأنما الزيتون حول النهر بين رياض زخرفت بالزهر عقد زمرد هوى من نحر أو خرز خرطن من بازهر وفي مكان آخر على المتوسط، تحضر شجرة الزيتون في الأدب التركي الحديث كرمز من رموز الهوية الوطنية التركية، ومن أبرز النماذج قصيدة «الزيتونة المرّة» للشاعر محمد ياشين، حيث تتماهى الزيتونة مع صورة الأب، بأذرعها المجعدة المكسوة بالجلد القاسي ووجها المضيء الذي يتعرّف على الشاعر من بعيد. منذ أن أطلق النبي نوح الحمامة – كما جاء في سفر التثنية في التوراة- ليرى إذا كانت المياه قد جفّت عن الأرض فعادت إليه الحمامة وفي فمها ورقة زيتون خضراء معلنة انتهاء الطوفان، غدت شجرة الزيتون رمزاً للحياة والسلام، وفي إشارة أخرى في التوراة تقول: إن الأشجار عندما أرادت أن تنتخب ملكا عليها اختارت شجرة الزيتون، لكنها رفضت قائلة: لن أترك زيتي الذي باركه الرب من أجل أن أحكم الأشجار؟" شكلّت شجرة الزيتون رمزاً مهماً في آداب وفنون البحر المتوسط منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام وحتى اليوم، وقد استطاع الفنان الإسباني بابلو بيكاسو أن يثبت مشهد الحمامة التي تمسك في فمها بغصن الزيتون في أذهان العالم كلّه عندما جسده شعاراً لحركة السلام العالمي. |
|
|||||||||||||