العدد 49 - بورتريه | ||||||||||||||
خالد أبو الخير يرحل إلى صومعته في جبال زي نهاية كل أسبوع، يفترش الشمس والمطر، ويرنو بعين الفيلسوف لما تركه وراءه على السفوح.. من حوارة، القرية التي ابتلعتها مدينة إربد كانت البداية العام 1943. نشأ في عائلة كبيرة، سبع بنات وأخ جاء متأخراً في العام 1960، وهو يعزو استقلاليته إلى فرادته كذكر وأخ أكبر. أحوال العائلة المادية كانت متوسطة، وما زال يذكر أنه ارتدى حذاء في وقت مبكر، في وقت تعين على كثير من زملائه، أن ينتظروا حتى الثانوية، ليحصلوا على مثيل له. والده عبد الرحيم، كان تاجراً، افتتح وشقيق له أول منجرة صناعية في إربد مطلع الأربعينيات، بماكينات استوردوها من حيفا، لكن الأب كان تقليدياً. انتقلت العائلة وهو بعد بعمر مبكر للإقامة في إربد على بعد حفنة كيلومترات من حوارة، «غير أنهما عالمان مختلفان»، والتحق بمدارس إربد الحكومية «لأن المدارس الخاصة كانت أيامها للطلبة المقصرين والكسولين، وكان هناك مبدأ فصل الطلاب». مدرسته الأولى إربد الثانوية والدوام كان على فترتين تتخللهما فسحة غداء، يذهب خلالها الطلاب الى بيوتهم ثم يعودون بعد الظهر. درس الإعدادية في مدرسة حمزة بن عبد المطلب، حيث بدأ وعيه السياسي بالتفتح على إيقاع أساتذته المسيسين «أخوان، بعثيون، شيوعيون، وقلة من التحريريين». ويلاحظ أن حزباً كالوطني الاشتراكي الذي شكل رئيسه سليمان النابلسي الحكومة، لم تكن له قاعدة في إربد، ما يدعوه للقول إن الحزب كان « عمانياً ونخبوياً». شارك في التظاهرات ضد حلف بغداد، لكنه لم ينتم لحزب معين « آمنت دائما باستقلاليتي، وأجد صعوبة في تلقي الأوامر». حاز المترك العام 1960، وسافر الى القاهرة لإكمال تعليمه، وتعين عليه أن يقدم التوجيهية المصرية، كمقدمة ضرورية لدخول كلية التجارة في جامعة القاهرة. أجواء مصر الستينيات أيام عز جمال عبد الناصر أخذت بألبابه، فأقبل على الاستزادة من معين الثقافة بقراءة سلسلة الكتب المترجمة المدعومة من الدولة وتباع بخمسة قروش، فتعرف على «يوجين أونيل وجان بول سارتر وغيرهما»، وجال حول سور الأزبكية الشهير. كما ارتاد المسرح ودار الأوبرا قبل أن تحترق «أكتوبر 1971». وحضر مسرحيات عالمية منها بحيرة بجع تشايكوفسكي بأداء فرقة البلشوي. «لم يكن نظام عبد الناصر مثالياً، فمشاكله الاجتماعية والاقتصادية التي تفجرت في ما بعد، وكانت حرب الـ67 شرارتها، جذورها موجودة ومعروفة لأي مراقب محايد». قفل عائداً بعد نيله البكالوريوس من جامعة القاهرة، وعمل معيداً في الجامعة الأردنية في مقتبل تأسيس كلية الاقتصاد والتجارة، وبقي فيها الى صيف 1967. «راقب الناس الحرب من خلال الإذاعات، كأنها ليست حربهم، عدا استثناءات قليلة ذات طابع وظيفي. السائد كان الحماس الكلامي، الذي اصطدم بواقع فقدان الضفة الغربية، وصور الجنود الذين عادوا منهكين، والنازحين يقطعون النهر». حل في جامعة تكساس العام 1968 وحاز الماجستير في الأعمال MBA، وانتقل في خريف ذلك العام الى جامعة ويسكنسن لدراسة الدكتوراه في العلوم الإدارية. مارس العمل الطلابي في الجامعة ذات الطابع الليبرالي، في أجواء تميزت ببروز "الهيبز" والمعارضة لحرب فيتنام، وشعارها الأثير " MAKE LOVE NOT WAR" ويذكر أن الأمور وصلت بمعارضي الحرب الى تفجير مركز أبحاث كان تابعا للبنتاغون. صيف 1972 عاد الى مقر عمله في "الأردنية" التي كان ملتزما معها، وبقي فيها الى العام 1998. " الجامعة مرت بعدة مراحل، عندما ابتدأت التدريس فيها لم تكن جامعة بالمعنى الواضح، فقد اقتصرت على كليات: الآداب، والاقتصاد، والعلوم، طلابها قليليون، لكن الجسم الطلابي كان فاعلاً، يطغى عليهم التوجه اليساري، كما كان المسرح الطلابي نشطاً. في السبعينيات بدأت الجامعة تأخذ شكلها، فقد زاد عدد الكليات والطلبة، وظلت لغاية منتصف الثمانينيات بحجم معقول مقارنة مع مواردها وامكانياتها المادية والبشرية. المرحلة الثالثة تميزت ببروز الأزمة في نهاية الثمانينيات، عندما تضخمت أعداد الطلبة بشكل فاق موارد الجامعة المادية والبشرية، وأصبحت العلاقات الإنسانية بين الطلبة، وبين الطلبة وأساتذتهم في حدودها الدنيا، وانتشر التوجه الإسلامي، فمثلا كان نادرا أن نرى طالبة في السبعينيات تضع غطاء للرأس اللهم إلا إذا كانت في كلية الشريعة، الأمر الذي اخذ بالانتشار منذ مطلع الثمانينيات وطغى في التسعينيات". تزوج من إحدى طالباته "عن ميل" يشفعه بالقول: "ثقافتنا لا تعترف بالحب، لأننا منذ 600 سنة عرضة لحياة قاسية وعنيفة لا مكان فيها للطف، الحكم العثماني "كلّس عواطفنا"، فضلاً عن أنه لم تكن عندنا مراكز مدينية، الآن بدأت أمورنا تتحسن، قد يكون الجيل الجديد أكثر انفتاحاً في العواطف". له من الأبناء ثلاثة: ابنتان وولد واحد يدعى أحمد. شغل منصب عميد كلية الاقتصاد بالجامعة الأردنية من 1983- 1986، فنائب رئيس الجامعة من 1986- 1990، ثم رئيساً لها من 1991- وحتى صيف 1998حيث جاء وزير تربية وتعليم في حكومة عبد السلام المجالي الثانية. يجادل بأن اختياره وزيراً "لم يأت على أساس معين، وإنما الأسلوب نفسه الذي يتم من خلاله اختيار الوزراء الآخرين، وهو أسلوب يفتقر للمعايير الموضوعية". حتى استقالة الحكومة في شهر آذار/مارس العام الذي تلا، تولى أكبر وزارة من حيث عدد العاملين فيها والمرافق التابعة لها "أنا مطمئن على انتشار البنية التحتية لكني لست مطمئنا على انتشار المعلمين الجيدين، لأن الكثيرين كانوا يستنكفون إذا ما عينوا في مناطق معينة، وتدعم الواسطات الرافضين للتنقلات، ما يدعوني للتساؤل: "كيف نخلق وطناً إذا كل واحد بده يضل عند أهله". بعد الوزارة عين رئيساً لمجلس إدارة شركة الفوسفات لمدة عام، ويعمل حاليا أستاذ شرف في "الأردنية". يرفض تصنيفه ليبرالياً، ويرى أن زمن الأيدولوجيا قد بهت، والعالم الآن يحفل بالأفكار التي تمتاز بالمرونة والسرعة، وتمتلك خاصية التكيف مع المستجدات. "لست يسارياً ولا يمينياً، وليس عندي قوالب جاهزة. أتعاطف مع الفقراء والمحرومين، لعدم وجود عدالة في توزيع الوظائف والفرص. وأعتقد أن المجتمع مسوؤل عن كبار السن: اقتصادياً ومالياً، أنا مع المجتمع الذي يعطي للفرد الفرصة لإبراز إبداعاته، لست مع النظام الذي يتيح للأمور أن تفلت، وأؤمن بحق أن الدولة ليست في الاقتصاد فقط وانما في الاجتماع أيضاً". أكاديمي زامله في "الأردنية" يرى أنه "لو كان متأكداً من أن هناك إرادة سياسية حقيقية للإصلاح لفعل الكثير". حين ينزل من زي، بعد انقطاع عن العالم حتى بدون هاتف، وهو عادة مقل في اتصالاته بشكل عام، ربما راوده قول فريديريك نيتشه في زارادشت : لو لم يكن لشعاعك من ينير أكان لك غبطة أيها الكوكب العظيم. ربما.. |
|
|||||||||||||