العدد 49 - كتاب | ||||||||||||||
سارعت معظم البنوك الأردنية، كبيرها إلى جانب صغيرها، إلى إعداد ونشر قوائمها المالية عن الربع الثالث لسنة 2008 وحتى نهايته، وكان القاسم المشترك فيها، وبينها، تأكيدها على تحقيق مستوى من الربحية ليس عالياً فقط، بل يتجاوز، بنسب ملحوظة، تلك السقوف التي توصلت إليها في الفترة المقابلة من 2007، مع الإشارة إلى أن ذلك قد تم في ظروف ومناخات أعنف أزمة مالية ونقدية عصفت بالاقتصاد الأميركي، والاقتصادات الرأسمالية الكبرى، ودفعت بالعديد من البنوك والشركات المالية والصناعية هناك إلى حافة الهاوية، وضربتها في الصميم. ودون أي تهميش لأهمية ومحورية بند الربحية ومستواها كأحد العناصر الرئيسة في مكونات التقييم لأوضاع البنوك ومدى سلامتها وآفاق تقدمها، فإن من غير المؤكد أن المعيار الوحيد أو حتى الرئيس، إن لم يكن مضللاً أحياناً، فإن كيفية إدارة مختلف جوانب أصولها ومطلوباتها ونتائجها أمر أساسي، كما أن الربحية العالية التي تظهرها القوائم المالية ليست دائماً مؤشراً أكيداً على نجاح وإنجاز، بل قد تعكس في أكثر من حالة مكاسب أو انتفاخات آنية قصيرة الأجل، مقابل مخاطر قرارات مغامرة وممارسات خاطئة تطفوا تداعياتها البشعة على السطح لاحقاً، كما نراها بالفعل الآن في عدد من البنوك وشركات التأمين والاستثمار الأميركية والبريطانية. لسنا في هذا المقال في صدد تقييم مدى كفاءة وملاءة الإدارات المصرفية المحلية، بل هي محاولة لتحديد أسباب وعوامل مهدت للبنوك الأردنية عموماً الطريق للوصول إلى درجات متقدمة من الربحية، وما إذا كانت هذه مبررة وإيجابية، أم تحمل في طيّاتها مخاطر لاحقة لها، وللاقتصاد الوطني. لا نغالي عندما نشير إلى أن البنوك الأردنية، بشكل عام، تعمل في نطاق مراكز احتكارية نسبية تمكنها منفردة أو بالتنسيق في ما بينها، ومن خلال جمعيتها، من اتخاذ الإجراءات والقرارات التي ترى بأنها تكسبها أعلى ربحية ممكنة، كالتي تحققت مؤخراً. فخلال السنوات الماضية، حافظت على «هامش فائدة مصرفي واسع لصالحها»، أي على فرق عريض بين معدلات الفائدة التي تتقاضاها على ما تمنحه من قروض، وبمستويات أعلى بدرجات من نسب وقيمة الفائدة التي تدفعها على الأموال المودعة لديها. وقد راوح هذا الهامش بين 6 بالمئة، في 2002، أي 3.8 بالمئة في المتوسط الآن، في حين أن الهامش السائد عالمياً والمقبول كان وما يزال بحدود 2 بالمئة. كما أن العديد من البنوك لم تستفد فقط من اتساع هذا الهامش، بل أنها تحقق مكاسب إضافية من خلال اختيار الطريق الأنسب لها في احتساب الفوائد الدائنة والمدينة (الفائدة المقطوعة مثلاً)، وتوقيت وطريقة دفعها وتحصيلها وممارسات أخرى مشابهة. وتزايدت الودائع تحت الطلب والتوفير التي تفتح لدى البنوك، وبأكثر من حافز وإغراء، في قيمتها ومعدلاتها لتقارب 34 بالمئة من إجمالي ودائعها، وهي حسابات تفتح دون دفع فائدة عنها أو بمنح نسبة فائدة منخفضة حول 1 بالمئة، في المتوسط، على القليل منها. ولجأت غالبية البنوك إلى رفع أو حتى مضاعفة معدلات العمولات التي تحصلها مقابل الكثير من خدماتها المقدمة للمتعاملين معها، مثل عمولات الحوالات والكفالات والاعتمادات وبطاقات الائتمان وتحويلات الرواتب، وعلى بعض أشكال السحب من الحسابات، فيما أدخلت، أو ابتدع بعضها، عمولات جديدة على نشاطات يفترض أنها من صلب إنجاز وتنفيذ عملياتها وبعض عناصر نفقاتها، وأصبحت العمولات في اتجاهها التصاعدي جزءاً متنامياً من إيرادات البنك وربحيته. وتوسعت وأفرطت بعض البنوك في منح القروض والتسهيلات، وبخاصة بالدينار، وبضمانات عقارية في جانب كبير منها بما مكنها من تحقيق ربحية إضافية، ولكن مع مخاطر متسارعة ومتزايدة عندما تتجاوز نسبة تسهيلاتها الممنوحة 90 بالمئة من إجمالي ودائعها بالدينار، كما اتجهت إلى التركيز أكثر على «قروض التجزئة الاستهلاكية للأفراد، 37 بالمئة، من إجمالي القروض»، ولأغراض تجارية وخدمية وعقارية، قد تحقق ربحية آنية أعلى، ولكن على حساب ضعف مساهمتها في التنمية الاقتصادية المستدامة والمتكاملة. ومن جهة أخرى هنالك تفاقم مخاطر تعثر بعض المقترضين وتوقفهم عن الدفع واشتداد معاناة البنوك من ذلك. واندفعت هذه البنوك شيئاً فشيئاً إلى التركيز المتزايد على تضخيم محافظها (موجوداتها) من الأوراق المالية والمتاجرة بها في البورصة مباشرة أو بوساطة شركات وساطة أسستها لتكون الذراع الوسيط لها، وهو توجه يتيح أحياناً تحقيق مستويات عالية من الربحية، إلاّ أنه يتضمن قدراً كبيراً من المخاطر المؤدية إلى خسائر جسيمة وسريعة. السياسات النقدية المطبقة في أميركا، التي عملت الكثير من البنوك الأجنبية في أجوائها، وَلَّدَتْ العديد من الظروف والثغرات والخطايا التي أدت إلى الأزمة المالية الخانقة، وإذا كانت الوحدات المصرفية هنا، والتي عملت مؤخراً في أجوائها ومناهجها ومتطلباتها لم تتعرض حتى الآن لزلزال كهذا، فإن ذلك لا يبرر الاستمرار في المسار نفسه والاكتفاء بتكرار تصريحات رسمية مطمئنة. لا بد من أخذ الدرس جيداً مما جرى هناك والمسارعة إلى تبني توجهات جذرية جديدة لتلافي أو تغيير ما أسماه ساركوزي «برأسمالية المضاربين» في المصارف والبورصة، في السياسات المالية والنقدية كما في المناهج الاقتصادية الكلية. |
|
|||||||||||||