العدد 1 - ثقافي
 

تعمل الحركات الدينية السياسية المتطرفة، المغلقة على فهم دوغمائي للدين، أو على رؤية سياسية رجعية مغلّفة بالدين، على غسل منظم لأدمغة الناس، وبخاصة الشباب منهم، فتجعلهم ميالين إلى التعصب والشدة والقسوة في أحكامهم وتصرفاتهم، رافضين التعاطي مع مَن يختلف عنهم من أبناءِِ مجتمعهم وجنسهم، ومستعدين للتضحية بأنفسهم في عمليات انتحارية بشعة. وتقوم هذه الأيديولوجيا على مقت الآخر وتكفيره، ومعاداة الحياة والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتبيح العنف (المادي، أو المعنوي) سواء من خلال قمع الخصم، أو إقصائه، أو قتله.

وغالباً ما يحمل الفعل الإرهابي ، حينما يقع على شخص ما أو جماعة ما، رسالةً إلى ضحايا محتملين آخرين، بحيث يوقع الرعب في نفوسهم، ويثير التساؤل عن ماهية الضحية التالية. وبمعنى آخر إذا كان «العنف» من نصيب الضحية المباشرة، فإن الرعب والإرهاب يكون من نصيب كل المجتمع الذي ينتمي إليه الضحية، على حد قول فيليب كاربر.

وقد دفع ازدياد وتيرة التطرف الديني، في بعض الدول العربية، ونزوعه إلى استخدام القوة والعنف والإرهاب، خلال العقدين الماضيين، العديد من كتاب الدراما (السينمائية والتلفزيونية والمسرحية) العرب ومخرجيها إلى إنتاج أعمال فنية تغوص في بواطنه، وتضيء زواياه المعتمة، وتكشف عن جذوره ودلالاته وتأثيراته السياسية والاجتماعية والنفسية. ومن بين أهم الأعمال المسرحية الأخيرة التي قدّمت مقاربةً دراميةً رفيعة المستوى، نصاً وإخراجاً، عملان للمسرح التونسي الذي عُرف بتجاربه الطليعية المتقدمة، وجرأته في اقتحام موضوعات حيوية وشائكة يمور بها الواقع العربي. العمل الأول بعنوان «خمسون»، أو «اجساد رهينة» تأليف وتمثيل جليلة بكار، وإخراج الفاضل الجعايبي. والثاني بعنوان «رهائن» تأليف وتمثيل ليلى طوبال، وإخراج عز الدين قنون.

تبدأ مسرحيّة «خمسون»، التي أنتجتها فرقة (أميليا)، من حادثة مفجعة: أستاذة فيزياء محجّبة في مدرسة ثانوية، اسمها (جودة)، تفجّر نفسها أمام زملائها وزميلاتها في المدرسة التي تدرّس فيها، وسط العاصمة التونسية، وتحت علم بلدها في يوم الاحتفال بالعيد الخمسين لاستقلاله، على خلفيّة مشهد يصوّر جماعة من المتديّنين تمارس الوضوء والصلاة بشكل يطغى عليه الاهتمام المفرط بالتفاصيل والحرص المغالي على النقاوة والطهارة، يتلوه الظهور الصاخب لجهاز الأمن السياسي بأساليبه المعتادة المتكرّرة، اذ يحاول عناصره الوصول إلى الحقيقة من خلال الاستجواب المباشر لكلّ معارف المدرّسة الانتحاريّة، معتمدين القليل من الترغيب والكثير من الترهيب والتعذيب، كما تشير إلى ذلك (مريم)، التي ذكّرت المحقّق بتجربتها مع جدران غرفة التحقيق منذ اعتقال والدها اليوسفي في الستينات، مرورًا بالحركة الطلابيّة وصعود اليسار واعتقالها مع زوجها ورفيق دربها في السبعينات، إلى شقيقها النقابي في أحداث 28 يناير، ووصولاً إلى اليوم حيث يُحقّق معها من جديد للاشتباه بضلوع ابنتها (أمل) ذات التوجّهات الإسلاميّة في عمليّة التفجير... وكالعادة تحاول (مريم) إقناع الممثّل الأمني للسلطة بأنّ هذه الأخيرة تكرّر الأخطاء نفسها منذ نصف قرن، وأنّ الحداثة والتقدّم لا يُحميَان بالإكراه والرعب، وتأتي الإجابة مبهمة من رجل الأمن الذي يتعلّل بتطبيقه للأوامر، بعد عجزه عن الإجابة عن الحجج المنطقيّة لمخاطبته التي خطفت منه دور المستجوب الباحث عن الحقيقة...

وحين تعود أمل من فرنسا، مرتديةً الخمار، يرفض والداها الناصر ومريم بقوّة اختيارها التديّن، ويصل الرفض إلى أقصاه عندما يمتنع الوالد تقبيلها ومقابلتها بخمارها، فتقرر هجرهما إلى "أخواتها" و"إخوانها" في الدين، وتحاول من خلال علاقتها بهم أن تلامس الحقيقة المطلقة والراحة النفسيّة التي وجدتها في الدين، لكنّها تكتشف أنّ الصورة لا تخلو من الشوائب، فتخوض معهم ،على خلفيّة مشاهدة أحد أفراد الجماعة المتديّنة لأمّها تخرج من حانة، صراعاً مريراً تدافع فيه عن رؤية معتدلة ومقاصديّة للدين مقابل أخرى نصيّة حرفيّة تغلّب الشكل على الجوهر، في مشهد اختزل فيه "التراشق" بالآيات القرآنيّة الكريمة عمق أزمة الخطاب الديني المتزمت في مجتمعاتنا، وصعوبة تأقلمه مع قيم الحداثة ومتطلبّاتها.

تتكرّر مشاهد الاستجواب العنيف للمتهمين، وحتى لمعارفهم مثل مدرب الملاكمة، في إشارة إلى عدم قدرة رجال الأمن، رغم قوّتهم ووجودهم في كل مكان، على التعامل السليم حتى مع من لم يرتكب أيّ جرم، مما يضاعف من أسباب الغضب والشعور بالظلم. كما تبين المسرحية انّ الأحداث التي يشهدها الوطن العربي والعالم الإسلامي من حروب واحتلال واستبداد خارجي، أسهمت بدورها في تغذية مشاعر الاضطهاد والنقمة على المعتدي- المحتلّ الذي تحوّل، أو حُوّل، في ذهن بعض الشباب المتحمّس، بفعل سياسات التفقير الثقافي، وانتشار الفكر الماضوي، وحدّة أزمة الإنتماء، إلى ذلك الأجنبي- الكافر.

ويكون ردّ المتهمّين- الضحايا بمزيد من التطرّف عبّرت عنه مشاهد التهييج العاطفي والخطب الملتهبة، التي تنطلق من رفض واقع الهــزيمة والذلّ إلى معاداة الجميع بعد أن تُقسَّم الأطراف المقابلة إلى مؤمنة وكافرة.

وفي الوقت الذي تحاول فيه مريم فهم ما يجري من خلال مطاردة (قدّور المنقلة) جلادّ زوجها السابق، ومحاسبته على ما ارتكبه من خطايا في حقّ العباد والبلاد، يغرق (الناصر الأب) في إحباطه الذي يؤدّي به إلى المرض العضال ومن ثمّ إلى الوفاة وينتهي العرض بإدانة "الأجهزة" للشاب المتديّن (حمِد بن ميّ) الذي يردّ على خشونة جلاّديه بمزيد من التحدّي والتمسّك بنهج العنف، في مشهد اعتراف مثير يتضّح فيه أن المتهم هو من مواليد 15 نوفمبر 1987 ، في إشارة بليغة إلى أنه من أبناء ما يُعرف بـ "جيل العهد الجديد" الذي راهنت عليه السلطة في حربها الاستئصاليّة للتطرّف الديني، فاكتشفت أنّها "أنتجت" جيلاً مسخاً تائهاً، متوتراً وناقماً على الجميع.

مسرحية أخرى

وتعرض مسرحية (رهائن)، والتي أنتجها مسرح الحمراء الثقافي، قصة ستة مسافرين لا شيء يوحد بينهم سوى السفر صوب المجهول، صوب البحث عن مستقبل آخر، عن فضاء آخر، عن هويّة، عن حرّية. كانوا ينتظرون موعد انطلاق الباخرة لمّا فاجأهم عدد من الإرهابيين دون تحديد هوّيتهم، واختطفوهم ورموا بهم في غياهب فضاء مغلق من كل جانب، فيحدث اللقاء بينهم رغم الظلام، ويتحدثون عن مصائرهم و أحلامهم، عن آمالهم وطموحاتهم... وعن آلامهم أيضا.

ويعيش المختطفون لحظات طويلة مملّة، قاسية لا يستطيعون تحمّلها لولا الكلام. إنهم يهربون من الخوف والرعب إلى الكلام، فيتحدّثون ويتحدثون، و يتحوّل الخوف إلى قوّة داخلية للمواجهة.. مواجهة الإرهاب والتطرف. وفي النهاية يدركون أنّ الهرب إلى المجهول هو الذي يشجع الإرهابيين على المضيّ قدما صوب تحقيق أهدافهم المعطّلة للعقل والحداثة، ولذا عليهم أن لا يسافروا، وأن يواجهوا مستقبلهم بثقة جديدة في أنفسهم تدفعهم إلى تنقيّة المجتمع من الإرهابيين، ولكن أيضاً بمقاومة الأسباب التي جعلت الإرهاب يعشش في النفوس، ويوقف الإبداع، وينتصر للتخلف. يُقدّم عرض هذه المسرحية أحزان الشخصيات المختطفة على شكل مونولوجات قصيرة ، تعرفنا على دواخلها الممتلئة بأحلام بسيطة ظلت تدور في فضائها الذاتي دون أن تتمكن يوماً من جعله حقيقة، وإن كان يبدو الأمر على غير هذا النحو بالنسبة للفتاة التي تحلم بأن تكون مطربة مشهورة، أو لاعب كرة القدم الذي يقدم نفسه في ذلك الظلام الدامس، وهو رهينة، على أنه لاعب كرة قدم شهير إلى أن نفاجأ بأن تلك الفكرة من صنع هواجسه فقط. ولكن ليس هناك طموحات لكل شخصيات العرض، فالفتاة "صوفيا"، الموظفة اللطيفة، تحب كل الناس إلى درجة أنها تهدي خاطفيها أغنية لاتشفع لها. وأكثر الشخصيات المحتجزة إثارة للاستغراب ليس ذلك الولد الذي يهرب من سيطرة والدته ورعايتها، بل تلك المرأة المريضة نفسياً التي عاشت في مصح عقلي لاتهامها بقتل ابنتها. ولا ندري ما علاقة تلك الشخصيات البسيطة بالقضايا الكبرى التي يتنازع عليها الكبار، وتذهب ضحيتها نماذج شابة مثل هؤلاء المخطوفين؟

على أية حـال هذه هي الحيـاة المعــاصرة، وهذه هي قيم عصرنا الحالي، التي لم يعد بمقدورها إلا أن تدهس أحلام البسطاء لأن الزمن، للأسف، ليس لهم، بل للأقوياء الذين أصدروا قوانينهم. هذا ما يصوره العرض، على الأقل، حين يظهرهم محشورين في مكان مظلم، عاجزين عن مواجهة قوى مسلحة، فلا يمتلكون سوى الحوار، ولاشيء يساعدهم في الخروج من محنتهم. إنهم رهائن لاشيء، يخافون من النسيان والتحول إلى ذكرى، ووسائل الإعلام تستغل الحدث وتتعامل معه بوصفه سبقاً صحفياً لا غير.

*كاتب عراقي مقيم في الاردن

نموذجان لمقاربة الإرهاب في مسرح عربي – عواد علي
 
08-Nov-2007
 
العدد 1