العدد 49 - ثقافي
 

السّجل - خاص

تتأمل الفنانة منى حاطوم، في معرضها المقام حالياً في مؤسسة خالد شومان – دارة الفنون، أحوالَ الحرب، وتتقصّى انعكاساتها وآثارها على واقع المجتمع الإنساني. وفي منجزها الإشكالي، يتحول ما هو اعتيادي ومتّسق إلى مشهد غريب وصادم، يخلخل القناعات ويتجاوز المألوف والمسلّمات. أعمال حاطوم تبدو وكأنها تقول: ليس ثمة شيء يمكن الركون إليه أو الاطمئنان إلى حقيقته.

حاطوم، وهي فلسطينية الأصل بريطانية الجنسية ذات شهرة عالمية، تطرح في عملها الإنشائي "حديقة معلقة" فكرة اعتياديتنا للحرب التي صارت أحداثها ومشاهد العنف فيها مألوفة تتغلغل في تفاصيل واقعنا اليومي! بقليل من التمحيص، يكتشف المرء أن العشب النضر المرتبط بالحدائق العامة التي تسرّ الخاطر، ينبت من ثنايا "شوالات" (متاريس) استُخدمت في الحرب. وفي فيديو "أعمال طرق" يتحول الحذاء العسكري (رمز الحرب) إلى ما يشبه كائناً أليفاً يلاحق المرأة ويتشبث بها، فيما هي لا تبدي أية محاولة للتخلص منه، وقد سلّمت بحقيقة أنه ينبغي الاعتياد عليه.

هذه الفكرة الصادمة حدّ الإيلام، تَبرز كذلك في العمل الإنشائي "حلقة مفرغة"، حيث تدور مجسّمات الجنود حول مركز الدائرة دون توقُّف أو وصول إلى نهاية. هكذا هي الحرب، لا نهاية لها. إنها قدَر حتمي يلازم البشرية.

القنبلة تحضر أيضاً في أعمال حاطوم الإنشائية. "طبيعة صامتة" عملٌ فني يتكون عن قطع خزفية ملونة تتخذ كل واحدة منها شكل قنبلة. أما "وسام العار" فهو نحتٌ لخريطة على وسام يتخذ شكلَ قنبلة. هذا العمل يبعث على المرارة والسخرية في الوقت نفسه: "وسام" يتوج "العار". وهناك عبارة منقوشة أسفل الوسام تقول: "صُنعت في الولايات المتحدة".

الخرائط، التي تدل على اللامكان، وعلى كل مكان في آن، تأخذ حيزاً كبيراً في المعرض. لكنها خرائط قابلة لأن تتبدل وتتغير في أية لحظة، كأرض ترتقب هزة أو زلزالاً يباغتها ليغيّر من معالمها. في العمل الإنشائي "أفغاني (أحمر وبرتقالي)" هناك سجادة صوف تحوي أشكالاً خرائطية تتمدد في كل اتجاه، لأنها صُنعت أساساً بتفريغ الصوف من سطح السجادة، وإذا ما استمر المشي عليها أو إذا ما واصل الزمنُ فعلَهُ فيها، فستظل الأشكال تتسع وتتمدد لتلتهم السجادة بأكملها.

في العمل الإنشائي "مدن ثلاثية الأبعاد"، تتغير طبوغرافية دول استهدفتها حروبٌ شرسة: أفغانستان، العراق، وفلسطين. مناطق صعدت إلى الأعلى، وأخرى هوت في أعماق سحيقة بشكل يبعث على الرعب والهلع: ما الذي حدث؟ ما مصير الأحياء في هذه البقعة أو تلك؟ عليك أن تستحضر ما في ذاكرتك من أحداثٍ قبل أن تجيب عن هذه الأسئلة وسواها.

التساؤل رفيقُ المتفرّج وهو يتأمل العمل الإنشائي "مشهد داخلي" الذي يبدو صورة مجتزأة لمشهد داخلي في البيت. يحتوي العمل على قطع أثاث مألوفة، بعضها يبدو حميماً: سرير متقشف يخلو من أسباب الراحة المفترَضة فيه، تعتليه مخدّة يتبعثر فوقها شَعرُ إنسان يشكّل خريطة فلسطين، وبالقرب منه طاولة عليها صحن كرتوني تزركشه نقوش لخريطة ما. وتتخذ العَلاَّقَة أيضاً شكل خريطة فلسطين، أما الحقيبة التي يبدو أنها كانت أيضاً خريطة ورقية جرى قصُّها بطريقة معينة، فقد فارقت وظيفتها المتمثلة في حماية الممتلكات الخاصة الموضوعة فيها، وبدت غير قادرة على حماية شيء.. جميع تشكيلات الأغراض تشير إلى الوطن، وطن كان مأوى وملجأ لساكنيه، لكنه بات غير قادر على حمايتهم أو حتى حماية نفسه. وطنٌ حلمٌ، خارجُه أرضٌ بوار ومنفى دائم.

الحنين إلى الوطن، ورفض الحرب التي تسبب البعد عنه، وتقود إلى المنفى وفراق الأحبّة، محورُ عدد من أعمال حاطوم، من أبرزها الفيديو الذي يحمل عنوان "مقاييس البعد"، وفيه يدور حوار خاص وعاطفي جداً بين الأم وابنتها في فضاء مكاني شديدة الخصوصية في البيت، هو "الحمّام". يَظهر جسدُ أم الفنانة مغطّى بكلمات كُتبت بالعربية، تم اجتزاؤها من الرسائل التي كانت تبعثها الأم لابنتها المستقرة في لندن، ويظل يتردد الحوار باللغة العربية، يتداخل معه صوت حاطوم المشوَّش وهي تترجم الرسائل إلى الإنجليزية. يتحدث العمل عن تعقيدات المنفى وما تُنتجه الحروب من شعور مؤلم بالفقد والفراق، وهو ما يخرج الشخصي والخاص من إطاره ويضعه في سياق اجتماعي وسياسي عام. أنجزت حاطوم هذا العمل في أواخر الثمانينيات، وهي مرحلة استثمرت فيها الجسدَ كمادة للعمل ترمز إلى جسد المجتمع بمجمله.

وُلدت حاطوم في بيروت العام 1952 لعائلة فلسطينية، أقامت منذ العام 1975 في لندن وعملت فيها. وكانت ذهبت إلى لندن في زيارة، لكن اندلاع الحرب الأهلية منعها من العودة إلى لبنان. بعد أن أتمت دراستها في كلية "بيام شو" للفنون وكلية "سليد" للفنون الجميلة، في أواسط الثمانينيات، اشتُهرت حاطوم بأعمالها في فن الأداء والفيديو، والتي ركّزت، بشكل مكثف، على الجسد.

في مطلع التسعينيات بدأت حاطوم تتجه، بشكل أكبر، نحو الإنشاءات الضخمة التي تهدف إلى إثارة المشاعر المتضاربة لدى المشاهد، كالرغبة والاشمئزاز والخوف والانبهار.

بمرور الوقت، طورت حاطوم لغةً تتحول من خلالها متعلّقات المنـزل المألوفة، مثل المقاعد والأسرّة ومهود الأطفال وأواني المطبخ، إلى أشياء غريبة ومُهَدِّدَة، وأحياناً خطرة. حتى الجسم البشري يُصوَّر كشيء مجهول في فيديو إنشائي لحاطوم بعنوان «جسم غريب» (1994) يتتبع رحلةَ جهاز تنظيرٍ داخلي، وهو يستكشف زوايا جسمها.

عُرِضَت أعمال حاطوم في معارض شخصية لها في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا. في العامَين 1997-1998 أقيم معرض شامل لتجربتها نظمه متحف الفن المعاصر في شيكاغو. طاف هذا المعرض في المتحف الجديد للفن المعاصر بنيويورك، ومتحف الفن الحديث بأكسفورد، وغاليري اسكتلندا الوطني للفن الحديث بمدينة أدنبرة.

أقامت حاطوم معارض فردية أخرى في مركز «جورج بومبيدو» بباريس (1994)، ومركز «كاستيلو دي ريفولي» بتورين (1999). كما أقامت معرضاً بعنوان «اضطراب منزلي» في «سايت سانتا فيه»، و«ماس موكا» بأميركا (2000-2001)، إضافة إلى معرض شامل لأعمالها في مركز «سلمانكا» للفن، ومركز «غاليغو» للفن المعاصر بإسبانيا (2002-2003). معرضها «كل العالم كأرض غريبة» كان المعرض الافتتاحي لانطلاقة متحف «تيت بريطانيا» (2000).

نالت في العام 2004 جائزة «سوننج» المرموقة التي تمنحها جامعة كوبنهاجن كل عامين. ونالت جائزة «روسويثا هافتمان» - زيورخ.

تحتضنه دارة الفنون في عمّان: منى حاطوم في معرضها الأخير: الحرب قدَرُ الإنسانية
 
30-Oct-2008
 
العدد 49